جائحة كورونا كحافز للتغيير: إعادة تشكيل مشهد التدريب والتعلم في العالم العربي

بقلم الدكتور : ....

لم تكن جائحة كورونا مجرد أزمة صحية عابرة، بل شكلت نقطة تحول فارقة وعامل تغيير قسري أحدث اضطراباً عميقاً في بنية العديد من القطاعات، وكان قطاع التدريب والتطوير المهني في العالم العربي في قلب هذه العاصفة. فقبل الجائحة، كان المشهد التدريبي يعتمد بشكل كبير على النماذج التقليدية القائمة على التفاعل الوجاهي، ورغم وجود بعض المبادرات الرقمية، إلا أن وتيرة التبني التكنولوجي كانت متفاوتة ومحدودة في كثير من الأحيان. جاءت الجائحة، وما فرضته من قيود على الحركة والتجمعات، لتمثل حافزاً خارجياً غير متوقع دفع بالقطاع بأكمله نحو تجربة واسعة النطاق وغير مسبوقة مع التعلم عن بعد، ليس كخيار، بل كضرورة حتمية لاستمرارية الأعمال ونقل المعرفة. هذا التحول المفاجئ، وإن كان وليد الحاجة الآنية، كشف عن إمكانيات هائلة ولكنه أبرز أيضاً تحديات هيكلية عميقة، راسماً ملامح جديدة لمستقبل التدريب في المنطقة.

في المرحلة الأولى، اتسمت الاستجابة بحالة من التكيف السريع والمضطرب أحياناً؛ حيث سارعت المؤسسات التدريبية ومراكز التعليم المستمر إلى تبني الأدوات المتاحة للحفاظ على التواصل مع المتدربين ونقل المحتوى عبر منصات الاجتماعات الافتراضية الشائعة. ورغم نجاح هذه الاستجابة الطارئة في ضمان قدر من الاستمرارية، إلا أنها كشفت سريعاً عن قصور الاعتماد على مجرد محاكاة التجربة الصفية التقليدية في بيئة افتراضية. ومع مرور الوقت، بدأ المشهد ينضج تدريجياً، ليشهد تنوعاً أكبر في الأساليب والنماذج؛ فانتشر استخدام أنظمة إدارة التعلم (LMS) المتخصصة، وتزايد الاعتماد على الوحدات التعليمية غير المتزامنة التي تتيح مرونة أكبر للمتعلم، وبدأ استكشاف أدوات التفاعل والمشاركة الرقمية (كالاختبارات التفاعلية، والسبورات البيضاء المشتركة، ومنتديات النقاش المنظمة)، بل وشهدت بعض المجالات التقنية والمتخصصة تجارب واعدة في استخدام تقنيات المحاكاة والواقع الافتراضي والمعزز لتقديم تجارب تدريبية عملية عن بعد. كما برزت أهمية نماذج التعلم المصغر (Micro-learning) والتعلم في الوقت المناسب (Just-in-time learning) لتلبية احتياجات التطوير المهني السريعة والمرنة.

لكن هذه القفزة التكنولوجية المتسارعة لم تخلُ من كشف وتعميق لتحديات قائمة. فـ “الفجوة الرقمية” لم تقتصر على ضعف البنية التحتية للاتصالات في بعض المناطق أو عدم امتلاك الأجهزة اللازمة للوصول إلى المحتوى الرقمي، بل امتدت لتشمل التفاوت في مستويات “الأمية الرقمية” أو ضعف المهارات الأساسية للتعامل مع المنصات والأدوات الرقمية لدى شرائح واسعة من المتدربين والمدربين على حد سواء. كما شكل تحدي “إعادة خلق التفاعل والمشاركة” في البيئة الافتراضية عقبة كبيرة؛ فصعوبة قراءة لغة الجسد، وتحديات إدارة النقاشات الحية، والشعور بالعزلة لدى بعض المتدربين، كلها عوامل أثرت على ديناميكيات التعلم وجودة التجربة مقارنة بالتفاعل الوجاهي. وارتبط بذلك بشكل وثيق، بروز فجوة في “الكفاءة التربوية الرقمية” لدى المدربين؛ فالتحول لم يكن مجرد تغيير في الأداة، بل تطلب فهماً عميقاً لمبادئ تصميم التعليم الرقمي، وأساليب التيسير والتحفيز عبر الإنترنت، وتقنيات التقييم الفعال في البيئات الافتراضية، وهي مهارات لم تكن متوفرة بالقدر الكافي. ولم تسلم “جودة المحتوى والتقييم” من التحديات، حيث أدى التسرع في التحول أحياناً إلى نقل محتوى غير مهيأ للبيئة الرقمية، أو ضعف في آليات التحقق من نزاهة التقييمات عن بعد. وأخيراً، برزت تحديات تتعلق بـ “تجربة المتعلم” نفسه، مثل الإرهاق الرقمي (Screen fatigue)، وصعوبة الحفاظ على التركيز والتحفيز الذاتي لفترات طويلة.

رغم هذه التحديات الجسيمة، إلا أن تجربة الجائحة حملت في طياتها جوانب مضيئة وفرصاً واعدة للمستقبل. فقد أثبتت قدرة لافتة لقطاع التدريب على التكيف والمرونة في مواجهة صدمة غير مسبوقة. كما أدت إلى “دمقرطة الوصول” إلى فرص التدريب بشكل محتمل، متجاوزة الحواجز الجغرافية ومقدمة إمكانية الوصول إلى خبرات ومدربين عالميين لشريحة أوسع (شريطة معالجة فجوة الوصول الرقمي). وأبرزت التجربة قيمة “المرونة” في التعلم، حيث أتاح التعلم عن بعد للكثيرين، خاصة الموظفين، إمكانية التوفيق بين التزاماتهم المهنية والشخصية ومتطلبات التطوير المهني. كما حفزت هذه التجربة “الابتكار في الأساليب التربوية” ودفعت نحو تبني تقنيات جديدة. وفتحت الباب أمام استخدام “تحليلات بيانات التعلم” بشكل أوسع لفهم سلوك المتدربين وتخصيص مسارات التعلم وتحسين تصميم البرامج بشكل مستمر.

وبالنظر إلى المستقبل، يبدو واضحاً أن العودة الكاملة إلى ما قبل الجائحة أمر غير مرجح؛ فالمشهد التدريبي في العالم العربي قد تغير بشكل دائم. يتجه المسار الآن نحو تطوير “نظم بيئية للتعلم المدمج” (Blended Learning Ecosystems) تجمع بشكل مدروس بين مزايا التفاعل الوجاهي ومرونة وفعالية التعلم الرقمي. ويتطلب تحقيق ذلك اتخاذ قرارات استراتيجية واعية من قبل المؤسسات التدريبية والحكومات على حد سواء، تشمل الاستثمار المستدام في البنية التحتية الرقمية وتضييق الفجوة الرقمية، وتكثيف جهود التطوير المهني للمدربين للتركيز على الكفاءات التربوية الرقمية، وإعادة تصميم المناهج والبرامج لتناسب بيئات التعلم المدمجة، ووضع أطر ومعايير واضحة لضمان جودة وموثوقية التدريب بمختلف أشكاله، مع التركيز بشكل خاص على تحقيق العدالة والشمولية في الوصول إلى فرص التعلم.

ختاماً، يمكن القول بأن جائحة كورونا كانت بمثابة اختبار قاسٍ ومُسرِّعٍ للتحول في آن واحد لقطاع التدريب في العالم العربي. لقد كشفت عن مكامن الضعف، ولكنها أيضاً أظهرت قدرة كامنة على الصمود والابتكار. ورغم أن التحديات، خصوصاً المتعلقة بالإنصاف والجودة، لا تزال قائمة وتتطلب جهوداً حثيثة، إلا أن الأفق يبدو مفتوحاً أمام تطوير قطاع تدريب أكثر مرونة، وتنوعاً، وفعالية، وقدرة على تلبية احتياجات التنمية البشرية والاقتصادية في المنطقة، مستفيداً من أفضل ما يقدمه العالمان الواقعي والافتراضي.

Loading

Talk to us now