الإدارة الحكومية المرتكزة على القيمة لتعزيز تجربة المتعاملين والتنافسية الوطنية

بـ قلم : محمود ثابت

-

دول الإمارات العربية المتحدة

إن المقياس الحقيقي لفعالية أي إدارة حكومية في العصر الحديث لا يكمن فقط في حجم عملياتها أو مدى التزامها بالقواعد، بل في مقدار “القيمة” الملموسة التي تقدمها لمواطنيها ولقطاع الأعمال وللاقتصاد الوطني ككل. ومن هذا المنظور، لا تُعد البيروقراطية التقليدية بمتاهاتها الإجرائية وهياكلها المتصلبة مجرد عائق أمام الكفاءة، بل هي في جوهرها آلية مُهدرة للقيمة؛ فهي تولّد الاحتكاك والتأخير والتكاليف غير المبررة، وتُضعف ثقة المتعاملين، وتخلق تجربة خدمة غالباً ما تكون محبطة وغير ملبية للاحتياجات. لذا، فإن السعي الحثيث الذي تبذله الدول، لا سيما المتقدمة منها، نحو تطوير الإدارة وتحديثها وتقليص الإجراءات البيروقراطية إلى أدنى حد ممكن (“تصفير البيروقراطية”)، لا يمثل مجرد إصلاح إداري، بل هو تحول استراتيجي جذري نحو نموذج حكم يضع “خلق القيمة للمواطن” في صميم أولوياته وأهدافه، ويعيد تصميم عملياته وهياكله لخدمة هذا الهدف الأسمى.

لفهم الحاجة إلى هذا التحول، يجب أولاً تشريح كيف تعمل البيروقراطية كعامل هدّام للقيمة. فالإجراءات المطولة والمعقدة تزيد من تكاليف الامتثال على الشركات والأفراد، وتؤخر اتخاذ القرارات الحيوية، مما يعيق الاستثمار والنمو. وانعدام الشفافية أو صعوبة الوصول إلى المعلومات يولّد الريبة ويفتح الأبواب أمام الممارسات غير السليمة، مما يقوض الثقة في نزاهة المؤسسات. كما أن الهياكل التنظيمية المنعزلة (Silos) تمنع تقديم حلول متكاملة للمشكلات المعقدة التي تتطلب تضافر جهود عدة جهات، وتؤدي إلى تجربة خدمة مجزأة للمتعامل. وفوق كل ذلك، غالباً ما تقاوم الثقافة البيروقراطية التغيير والابتكار، مما يجعل من الصعب على الإدارة الحكومية التكيف مع المتغيرات المتسارعة وتلبية التوقعات المتنامية للمجتمع.

في المقابل، يمثل التحول الرقمي أحد أقوى المحركات لتمكين نموذج الإدارة المرتكز على القيمة. فالأمر يتجاوز مجرد نقل الإجراءات الورقية إلى صيغة إلكترونية؛ إنه يتعلق بإعادة تصور تجربة الخدمة بأكملها. المنصات الرقمية المتكاملة تتيح للمواطنين والشركات إنجاز معاملاتهم من أي مكان وفي أي وقت، وتوفر خاصية الدخول الموحد، وتطبق مبدأ “الطلب مرة واحدة” للبيانات، مما يقلل الجهد والتكرار. كما يمكن استخدام تحليلات البيانات، ضمن الأطر الأخلاقية والقانونية، لفهم احتياجات المتعاملين بشكل أعمق وتقديم خدمات استباقية وشخصية بناءً على مراحل حياتهم أو طبيعة أعمالهم. إن الخدمات الرقمية السلسة، والمتاحة، والموثوقة، والشفافة (كتتبع حالة الطلبات إلكترونياً)، ترفع بشكل كبير من القيمة المدركة للخدمة الحكومية وتعزز رضا المتعاملين.

بالتوازي مع الرقمنة، يأتي تبسيط الإجراءات وإعادة هندستها كعنصر حاسم لخلق تجربة تفاعل سهلة وخالية من المتاعب. يتطلب ذلك تبني منهجيات “التفكير التصميمي” و”رسم رحلة المتعامل” لفهم نقاط الألم والاختناقات من منظور المستخدم النهائي، وليس من منظور الإدارة الداخلية. بناءً على هذا الفهم، يتم إعادة تصميم الإجراءات لإلغاء كافة الخطوات غير الضرورية، وتقليل عدد المستندات المطلوبة، وتبني نماذج عمل مرنة تعتمد على تقييم المخاطر لتسريع المعاملات منخفضة الخطورة. كما يساهم تطبيق مفهوم “المركز الشامل” للخدمات، سواء كان فعلياً أو رقمياً، في تقديم باقة متكاملة من الخدمات المترابطة عبر نافذة واحدة، مما يوفر على المتعامل عناء التنقل بين جهات متعددة ويقدم له قيمة مضافة حقيقية.

إن بناء الثقة هو حجر الزاوية في أي علاقة قائمة على القيمة، والعلاقة بين الحكومة ومواطنيها ليست استثناءً. وهنا يبرز دور الشفافية المطلقة ومكافحة الفساد كركائز أساسية. فالوصول المفتوح إلى المعلومات الحكومية (Open Data)، ووضوح معايير اتخاذ القرار، ونشر مؤشرات الأداء، وتعزيز آليات المساءلة، كلها عوامل تبني جسور الثقة وتؤكد للمواطنين والشركات أن الإدارة تعمل لمصلحتهم بنزاهة. كما أن مكافحة الفساد لا توفر فقط موارد كان يمكن أن تهدر، بل تبعث برسالة قوية حول التزام الدولة بسيادة القانون والعدالة، مما يعزز المناخ الاستثماري. وفي المقابل، يتطلب تقديم هذه القيمة وجود موظفين حكوميين لا يمتلكون فقط المهارات الفنية والرقمية، بل يتحلون أيضاً بثقافة خدمة متميزة، وقدرة على التعاطف وحل المشكلات من منظور المتعامل. وهذا يستدعي استثماراً مستمراً في تدريب وتطوير وتمكين وتحفيز الموظفين ليكونوا الواجهة الحقيقية لنموذج الإدارة المرتكز على القيمة.

أخيراً، يتجاوز نموذج الإدارة الحديثة مجرد تقديم الخدمات إلى إشراك المواطنين والشركات كشركاء فاعلين في “صناعة القيمة”. لم يعد المواطن مجرد متلقٍ سلبي للخدمة، بل يمكن أن يكون مصدراً للأفكار والمقترحات من خلال المنصات التفاعلية، وورش العمل التشاركية، والمجالس الاستشارية. يمكن إشراك المستخدمين في تصميم وتجريب الخدمات الجديدة (Co-design & Co-creation) لضمان تلبيتها لاحتياجاتهم الفعلية بأفضل طريقة ممكنة. هذا النهج التشاركي لا يحسن فقط من جودة وملاءمة الخدمات، بل يعزز أيضاً الشعور بالملكية المشتركة والمسؤولية الجماعية، ويزيد من القيمة الاجتماعية للعمل الحكومي.

إن القيمة النهائية لهذا التحول الشامل نحو إدارة حكومية حديثة وفعالة تتجلى في نتائج اقتصادية واجتماعية أوسع نطاقاً. فمناخ الأعمال المحسن يجذب استثمارات نوعية ويدعم نمو القطاع الخاص وخلق فرص العمل. والمواطنون الذين يحصلون على خدمات أفضل ويشعرون بأن أصواتهم مسموعة وتطلعاتهم محققة، يزداد رضاهم وثقتهم في حكومتهم، وترتفع مستويات مشاركتهم الاقتصادية والمجتمعية. كل ذلك يصب في نهاية المطاف في تعزيز القدرة التنافسية الشاملة للدولة، وتحقيق مستويات أعلى من الرفاهية والعدالة الاجتماعية لمواطنيها.

إذًا، إن تطوير الإدارة وتصفير البيروقراطية ليس هدفاً بيروقراطياً بحد ذاته، بل هو وسيلة استراتيجية لإعادة توجيه بوصلة العمل الحكومي نحو تحقيق أقصى قيمة ممكنة للمواطن والمجتمع. إنه يتطلب رؤية قيادية واضحة، والتزاماً بالتغيير الثقافي والتكنولوجي والتنظيمي، واستثماراً مستمراً في القدرات البشرية، وانفتاحاً حقيقياً على الشراكة مع المجتمع. هذا هو المسار الذي تسلكه الحكومات الرائدة لبناء مستقبل أكثر إشراقاً وازدهاراً لشعوبها في القرن الحادي والعشرين.

Loading

Talk to us now