التثقيف الإداري والقانوني العام كأساس للأداء المؤسسي الفعال والمستدام

بـ قلم : المستشار أيمن غراب

-

الإمارات العربية المتحدة

يشكل الفهم العام للإطار القانوني والإداري بين كافة موظفي الحكومة الأساس الذي يضمن التناغم التشغيلي والالتزام المؤسسي الشامل، وهو ما يتجاوز أهمية الخبرات المتخصصة المنعزلة في تحقيق الفعالية والنزاهة على مستوى المنظومة ككل. من هذا المنطلق، تكتسب ورش العمل التدريبية العامة، المصممة لنشر الوعي بالمبادئ والقواعد الإدارية والقانونية الناظمة للعمل الحكومي بين كافة الموظفين، أهمية استراتيجية تتجاوز مجرد نقل المعلومات؛ فهي تمثل آلية محورية لبناء وتغذية ثقافة مؤسسية قائمة على الفهم المشترك، وتعزيز قدرة المؤسسة على التعلم والتكيف ككيان واحد. إن الاستثمار في هذه الورش هو استثمار في بناء مؤسسة حكومية متعلمة، قادرة على التنقل بثقة وكفاءة في مشهد إداري وقانوني دائم التطور.

إن الحاجة إلى هذا الفهم الأساسي الموحد لدى جميع الموظفين، بغض النظر عن تخصصاتهم الدقيقة، تنبع من طبيعة العمل الحكومي المترابط. فالموظف في أي موقع كان، يحتاج إلى فهم السياق الإداري والقانوني الأوسع الذي يعمل ضمنه لاتخاذ قرارات يومية سليمة، وللتعاون بفعالية مع الزملاء في الإدارات الأخرى، لا سيما الإدارات القانونية والمالية والإدارية. هذا الفهم الأساسي يمكنه أيضاً من تحديد المشكلات المحتملة المتعلقة بالامتثال أو الكفاءة في نطاق عمله بشكل استباقي، ويمنحه الثقة للتعامل مع الإجراءات الروتينية بشكل صحيح ودقيق. وعلى النقيض، فإن العمل ضمن صوامع معرفية معزولة يزيد من احتمالية سوء الفهم، وعدم الاتساق في تطبيق الإجراءات، وارتكاب أخطاء كان يمكن تجنبها.

تؤدي ورش العمل العامة هذه دوراً حيوياً كمحفز للتعلم المؤسسي وبناء الثقافة المنشودة. فهي توفر منصة لإنشاء “لغة مشتركة” ومفاهيم موحدة حول القوانين واللوائح والسياسات الداخلية، مما يقلل بشكل كبير من الاعتماد على الاجتهادات الفردية والتفسيرات المتباينة التي قد تؤدي إلى نزاعات أو مخالفات. ومن خلال تقديم شرح واضح ومبسط للإطار القانوني والإداري، تساهم هذه الورش في ترسيخ ثقافة تنظيمية تقدر الشفافية والمساءلة والالتزام بسيادة القانون. كما أنها تشكل منتدى قيماً للتعلم الجماعي، حيث تتيح للموظفين مناقشة التحديات المشتركة، وتبادل الخبرات وأفضل الممارسات (التعلم من الأقران)، وتلقي التوجيه الموحد من الخبراء، مما يعزز الذاكرة المؤسسية ويرفع مستوى الأداء الجماعي. إنها ترسخ القيم المؤسسية المتعلقة بالنزاهة والعدالة والكفاءة في الممارسة اليومية.

من منظور إدارة المخاطر المؤسسية، تعتبر هذه الورش خط دفاع أول بالغ الأهمية. فالوعي العام والمنتشر بين الموظفين بالمبادئ الأساسية للقانون الإداري، وأخلاقيات الوظيفة العامة، وقواعد السلوك المهني، وإجراءات العمل المعتمدة، بالإضافة إلى الإلمام المتزايد بمتطلبات الحوكمة الرقمية مثل قوانين حماية البيانات وخصوصيتها وأساسيات الأمن السيبراني، يقلل بشكل كبير من احتمالية وقوع الأخطاء الإدارية، والمخالفات القانونية، والتجاوزات الأخلاقية، وحوادث أمن المعلومات. هذا الوعي الجمعي يساهم في بناء بيئة عمل أكثر أماناً وموثوقية، ويحمي المؤسسة من التكاليف الباهظة المترتبة على الدعاوى القضائية أو الإضرار بالسمعة أو فقدان ثقة الجمهور.

ولضمان تحقيق هذه الورش لأقصى تأثير ممكن على مستوى المؤسسة، يجب تصميمها وتنفيذها بأساليب تربوية حديثة تأخذ في الاعتبار تنوع جمهور المتدربين. يتطلب ذلك تجاوز أسلوب المحاضرة التقليدي نحو منهجيات أكثر تفاعلية وجاذبية، مثل دراسات الحالة العملية المستمدة من واقع العمل الحكومي، وتمارين المحاكاة التفاعلية، وجلسات العصف الذهني، والمناقشات الموجهة التي يشرف عليها خبراء متخصصون. كما يمكن تكييف المحتوى وعمقه ليناسب الأدوار الوظيفية المختلفة مع الحفاظ على الرسائل والمبادئ الأساسية الموحدة. ويجب الاستفادة من تقنيات التعلم الحديثة كمنصات التعلم الإلكتروني، والوحدات التعليمية المصغرة (Micro-learning) للمواضيع المحددة، وتوفير مستودعات معرفية رقمية يسهل الوصول إليها كمرجع دائم للموظفين. إن النجاح لا يكمن فقط في عقد الورشة، بل في دمج مخرجاتها في ثقافة العمل اليومية وأنظمة تقييم الأداء والتطوير المستمر.

في ظل التحول الرقمي المتسارع الذي تعيشه الإدارات الحكومية، أصبح من المحتم أن تخصص هذه الورش التدريبية العامة حيزاً هاماً للجوانب القانونية والإدارية المرتبطة بهذا التحول. فمن الضروري أن يمتلك جميع الموظفين فهماً أساسياً للإطار القانوني للمعاملات الإلكترونية، والتوقيع الرقمي، ومتطلبات حماية البيانات الشخصية والتعامل معها بمسؤولية (وفقاً لتشريعات مثل GDPR أو ما يعادلها محلياً)، والمبادئ الأساسية للأمن السيبراني للحماية من التهديدات المتزايدة، والاعتبارات الأخلاقية والقانونية لاستخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في العمل الإداري. هذا الإلمام الشامل يمكن القوى العاملة بأكملها من العمل بثقة وأمان وكفاءة ضمن البيئة الرقمية الجديدة.

بناءً على ما سبق، إن الالتزام بتنظيم ورش عمل تدريبية عامة وشاملة في المجالات الإدارية والقانونية لا يمثل مجرد نشاط تدريبي روتيني، بل هو استثمار واعٍ في بناء “المؤسسة الحكومية المتعلمة”. هذه البنية التحتية المعرفية المشتركة هي الأساس الذي تقوم عليه ثقافة الأداء العالي والالتزام بالأنظمة، وهي التي تمكن المؤسسة من تعزيز التعاون الداخلي، وتحسين جودة اتخاذ القرار على كافة المستويات، وزيادة الكفاءة التشغيلية، وفي نهاية المطاف، بناء إدارة عامة أكثر فعالية واستجابة وجدارة بثقة المواطنين والمجتمع.

Loading

Talk to us now