تُعد ديناميكيات العلاقات بين الموظفين، بما تحمله من توافق واختلاف، مؤشراً حيوياً على الصحة التنظيمية للمؤسسات الحكومية، وتتطلب إدارة واعية لضمان عدم تحول الخلافات إلى عوامل معرقلة للأداء والتماسك. ومع ذلك، فإن الطريقة التي يتم بها التعامل مع هذه الصراعات، أو تجاهلها، هي ما يحدد ما إذا كانت ستتحول إلى قوة هدّامة تقوض الصحة التنظيمية والأداء العام، أم يمكن توجيهها لتصبح، في بعض الأحيان، حافزاً للتطوير والنقاش البناء. إن النظر إلى إدارة صراعات الموظفين في القطاع الحكومي لا يجب أن يقتصر على كونه مجرد عملية لحل النزاعات بعد وقوعها، بل ينبغي أن يرتكز على رؤية استراتيجية شاملة تعتبر إدارة الصراع جزءاً لا يتجزأ من الحفاظ على “الصحة التنظيمية” وبناء بيئة عمل إيجابية، ومنيعة، وعالية الأداء. فالصراعات المتكررة أو سيئة الإدارة غالباً ما تكون مؤشراً أو عرضاً لمشكلات أعمق تتعلق بالثقافة أو الهيكل أو القيادة داخل المؤسسة، مما يستدعي نهجاً استباقياً ووقائياً في المقام الأول.
تتسبب الصراعات المُدارة بشكل سيء أو المتجاهَلة داخل البيئة الحكومية في تكاليف باهظة، تتجاوز مجرد المشاحنات الفردية. فعلى المستوى الداخلي، تؤدي إلى تآكل الثقة بين الزملاء وبين الموظفين والإدارة، وتسميم مناخ العمل، وتثبيط الروح المعنوية، وانهيار آليات التعاون والتنسيق الفعال بين الإدارات والأفراد. كما ترتبط ارتباطاً وثيقاً بزيادة مستويات التوتر والضغط النفسي لدى الموظفين، مما ينعكس سلباً على صحتهم ويزيد من معدلات الغياب والإجازات المرضية، ويرفع من معدلات دوران الموظفين، خاصة ذوي الكفاءات العالية الذين يبحثون عن بيئات عمل أكثر إيجابية. أما على المستوى الخارجي، وهو الأخطر في السياق الحكومي، فإن هذه الصراعات الداخلية يمكن أن تؤدي إلى تباطؤ في اتخاذ القرارات، وشلل في تنفيذ المشاريع، وتدهور في جودة الخدمات العامة المقدمة للمواطنين، والإضرار بسمعة المؤسسة ومصداقيتها، بل وقد تتطور في بعض الحالات إلى مشكلات قانونية أو إدارية تكلف الدولة موارد ثمينة وتزيد من تآكل ثقة الجمهور.
لذلك، فإن المقاربة الاستراتيجية تبدأ بالتركيز على “الوقاية” وبناء الحصانة التنظيمية ضد الصراعات الهدامة. يتطلب ذلك العمل على الأسس التي تعزز بيئة عمل صحية وإيجابية، وأهمها: أولاً، ترسيخ “الوضوح والشفافية في التواصل”؛ ويشمل ذلك تحديد الأدوار والمسؤوليات والصلاحيات بشكل دقيق لا لبس فيه، ووضع توقعات أداء واضحة وقابلة للقياس، وتوفير قنوات اتصال مفتوحة وفعالة على كافة المستويات، وتشجيع ثقافة تقديم التغذية الراجعة البناءة بشكل منتظم. ثانياً، ضمان “العدالة والمساواة” في كافة السياسات والممارسات المتعلقة بالموارد البشرية، مثل توزيع أعباء العمل، وفرص التدريب والتطوير، ومعايير الترقية، وأنظمة المكافآت، ومعالجة أي شعور بالظلم أو المحاباة بشكل فوري وموضوعي. ثالثاً، تعزيز “القيادة الشاملة والثقافة الداعمة”؛ حيث يلعب القادة دوراً حاسماً في نمذجة السلوكيات الإيجابية، وتشجيع الاحترام المتبادل، وتقدير التنوع في الآراء والأساليب، وخلق بيئة آمنة نفسياً يشعر فيها الموظفون بالراحة للتعبير عن آرائهم ومخاوفهم دون خوف من العواقب السلبية. رابعاً، الاستثمار في “تنمية المهارات الأساسية” لدى جميع الموظفين، مثل مهارات التواصل الفعال، والذكاء العاطفي، وحل المشكلات بشكل بناء.
ورغم أهمية الوقاية، فإن الصراعات ستظل تظهر حتماً، وهنا تأتي أهمية وجود آليات “التدخل الاستراتيجي وإدارة الصراع” بفعالية عند نشوئه. يجب أن تتبنى المؤسسات الحكومية نهجاً متدرجاً ومنظماً يبدأ بتمكين الأفراد من حل خلافاتهم البسيطة بأنفسهم بشكل مباشر ومحترم، من خلال تزويدهم بالأدوات والمهارات اللازمة لذلك. وفي حال عدم نجاح ذلك، يأتي دور التدخل الإداري المدروس، حيث يجب تدريب المدراء والمشرفين على كيفية التعرف المبكر على بوادر الصراع، وتيسير الحوار بين الأطراف، وتطبيق تقنيات الوساطة الأساسية للوصول إلى حلول مقبولة، مع إدراكهم لحدود تدخلهم ومتى يجب تصعيد الأمر. ويجب أن تتوافر آليات رسمية واضحة وعادلة ويمكن الوصول إليها بسهولة لمعالجة التظلمات والشكاوى الأكثر تعقيداً، قد تشمل خدمات وساطة داخلية أو خارجية محايدة. كما يمكن استكشاف المقاربات التصالحية (Restorative Approaches) التي تركز على فهم جذور المشكلة، وإصلاح الضرر الذي لحق بالعلاقات، وإعادة بناء الثقة، بدلاً من مجرد تحديد المخطئ ومعاقبته. والأهم في كل هذه الآليات هو ضمان تطبيقها باتساق ونزاهة على الجميع.
إن نجاح كل هذه الاستراتيجيات، الوقائية منها والعلاجية، يعتمد بشكل محوري على “التزام ودعم القيادة العليا”. فالقادة هم من يضعون الرؤية ويرسخون الثقافة التنظيمية التي إما أن تسمح بتفاقم الصراعات أو تشجع على إدارتها بشكل بناء. يجب على القيادة أن تظهر بوضوح التزامها بخلق بيئة عمل إيجابية وصحية، وأن تستثمر الموارد اللازمة (الوقت والميزانية) في برامج التدريب والتطوير المتعلقة بإدارة الصراعات، وأن تحاسب المدراء على كيفية إدارتهم للنزاعات ضمن فرقهم، وأن تعزز ثقافة يتم فيها النظر إلى الخلافات الصحية كفرصة للتطوير، وإلى طرح المشكلات كخطوة بناءة نحو الحل.
وفي هذا السياق، يلعب “التدريب المستهدف” دوراً حاسماً في بناء القدرات اللازمة على كافة المستويات. يحتاج جميع الموظفين إلى تدريب أساسي حول فهم ديناميكيات الصراع، وأنماط التعامل معه، ومهارات التواصل الفعال والاستماع النشط، وتقديم وتلقي التغذية الراجعة، وفهم سياسات وإجراءات مكان العمل ذات الصلة. بينما يحتاج المدراء والمشرفون إلى تدريب أكثر تقدماً وعمقاً على مهارات تشخيص الصراع، والوساطة، والتفاوض، وتيسير الحوارات الصعبة، وإدارة الأداء في سياقات متوترة، وفهم الجوانب القانونية والأخلاقية المتعلقة بالصراعات في بيئة العمل الحكومية. كما قد تحتاج وحدات الموارد البشرية أو الأقسام المعنية إلى متخصصين ذوي كفاءة عالية في الوساطة المتقدمة، والتحقيق في الشكاوى، وتطبيق الممارسات التصالحية.
يمكن للمؤسسات مراقبة “صحة بيئتها التنظيمية” وفعالية استراتيجياتها لإدارة الصراع من خلال مؤشرات متعددة، مثل نتائج استبيانات الموظفين الدورية (التي تقيس مستويات الثقة، وجودة التواصل، والرضا الوظيفي، والشعور بالعدالة)، وتحليل بيانات التظلمات والشكاوى ومعدلات حلها، ومتابعة معدلات الغياب ودوران الموظفين، وجمع التغذية الراجعة حول عمليات الوساطة وحل النزاعات نفسها. هذه المؤشرات تساعد في تحديد مواطن الخلل وتوجيه جهود التحسين المستمر.
وفي المحصلة النهائية، إن الإدارة الاستراتيجية والاستباقية لصراعات الموظفين ليست مجرد وظيفة إدارية ثانوية في المؤسسات الحكومية، بل هي عنصر أساسي للحفاظ على الصحة التنظيمية وتحقيق الأداء المتميز. فالبيئة التي تُدار فيها الخلافات بإنصاف وفعالية، وتُبنى فيها جسور الثقة والتفاهم، وتُعزز فيها ثقافة الاحترام المتبادل والتعاون البناء، هي البيئة القادرة على جذب أفضل الكفاءات والاحتفاظ بها، وهي القادرة على تعزيز الابتكار والإنتاجية ، وهي في نهاية المطاف القادرة على تقديم خدمات عامة ذات جودة عالية وتحقيق رضا المواطنين. إن الاستثمار في بناء بيئة عمل حكومية صحية ومتماسكة هو استثمار مباشر في فعالية الدولة وقدرتها التنافسية ورفاهية مجتمعها.