بناء المرونة الحكومية في مواجهة الصدمات الاقتصادية

بـ قلم : د. نيفين حسين

-

دولة الإمارات العربية المتحدة

لم تعد الأزمات الاقتصادية العالمية مجرد أحداث عابرة، بل أصبحت سمة متكررة ومعقدة للمشهد العالمي المعاصر، تفرض على الدول، لا سيما المتقدمة منها، تحديات غير مسبوقة. في هذا الواقع المتغير، يتجاوز دور المؤسسات الحكومية مجرد كونه خط دفاع تقليدي؛ إذ يبرز مفهوم “المرونة المؤسسية” (Institutional Resilience) و”القدرة على التكيف” (Adaptability) كضرورة استراتيجية حيوية لضمان استقرار المجتمعات والحفاظ على مسارات التنمية. إن بناء هذه المرونة لا يعتمد فقط على الموارد المادية أو الهياكل التنظيمية الجامدة، بل يرتكز بشكل أساسي على عاملين متكاملين: “رشاقة” المؤسسة في استجابتها، و”كفاءة وقدرة” رأسمالها البشري. ويأتي التأهيل والتدريب المستمر للموظفين الحكوميين كأداة محورية لتمكين هذين العاملين، وتحويل التحديات الصعبة إلى فرص لإعادة التموضع والنمو.

تُعرَّف المؤسسة الحكومية الرشيقة في سياق الأزمات بقدرتها على استشعار التغيرات ومعالجتها بسرعة وفعالية. يتضمن ذلك امتلاك آليات مرنة لمعالجة المعلومات وتحليلها، والقدرة على إعادة تخصيص الموارد بسرعة نحو الأولويات المستجدة، وتطبيق نماذج لامركزية في اتخاذ القرارات عند الحاجة لضمان سرعة الاستجابة، وتفعيل فرق عمل متعددة الوظائف والتخصصات لتجاوز الصوامع التنظيمية التقليدية، وتبني نهج قائم على البيانات في تخطيط السيناريوهات المحتملة، والحفاظ على قنوات تواصل شفافة ومفتوحة مع كافة الأطراف المعنية. هذا النموذج يتناقض بوضوح مع البيروقراطيات التقليدية البطيئة التي غالباً ما تجد نفسها عاجزة عن مواكبة وتيرة الأزمات المتسارعة.

وهنا يتجلى الدور الجوهري للتدريب كعامل تمكين رئيسي للرشاقة والمرونة المؤسسية. فالأمر يتعدى مجرد اكتساب مهارات فردية؛ إنه بناء قدرات مؤسسية متكاملة: المرونة المعرفية (Cognitive Agility) التي يساهم التدريب المتخصص في بنائها من خلال فهم مشترك وعميق لديناميكيات الأزمات وتداعياتها، وتطوير مهارات التحليل النقدي والتفكير الاستراتيجي والقدرة على استشراف المستقبل، مما يمكن المؤسسة من تقييم الموقف بسرعة ودقة؛ والمرونة التشغيلية (Operational Agility) حيث يزود التدريب الموظفين بالكفاءات العملية اللازمة لتنفيذ الاستجابات السريعة كإدارة الموارد المالية تحت الضغط وتطبيق خطط استمرارية الأعمال وإدارة المخاطر واستخدام الأدوات الرقمية؛ والمرونة العلائقية (Relational Agility) عبر صقل مهارات التواصل والتفاوض وبناء الشراكات لتنسيق الجهود داخلياً وخارجياً؛ وأخيراً المرونة العاطفية والنفسية (Emotional Resilience) من خلال برامج دعم الصحة النفسية وإدارة الضغوط وآليات التكيف الإيجابي ومهارات القيادة الداعمة للحفاظ على تماسك الفرق في أصعب الظروف.

إن المؤسسات الحكومية الرشيقة، التي تستند إلى كوادر مؤهلة ومدربة، لا تكتفي بالصمود في وجه الأزمات، بل تسعى لتحويلها إلى محفزات للتغيير والتطوير. فالاضطراب الذي تحدثه الأزمة يمكن أن يفتح نافذة لتسريع وتيرة الإصلاحات الهيكلية أو السياساتية التي كانت تواجه مقاومة في الأوقات العادية، مثل تسريع التحول الرقمي للخدمات، أو إعادة هيكلة الإنفاق العام. كما تتيح الأزمات فرصة لتجريب حلول مبتكرة وتطبيق نماذج عمل جديدة استجابة للاحتياجات الملحة. والأهم من ذلك، أن عملية الاستجابة للأزمة والتعافي منها، عندما تقاد بكفاءة وتستند إلى تحليل دقيق، تصبح درساً قيماً يتم البناء عليه لتعزيز قوة ومتانة الأنظمة المؤسسية والمجتمعية في مواجهة التحديات المستقبلية، وهذا يتطلب موظفين مدربين على التقييم والتعلم المؤسسي.

لذلك، لا ينبغي النظر إلى تدريب الموظفين الحكوميين كبند يمكن تقليصه خلال الأوقات الصعبة، بل كاستثمار استراتيجي في “الجاهزية المستمرة” والقدرة التكيفية للدولة. يتطلب ذلك التزاماً طويل الأمد بتصميم وتنفيذ برامج تدريب شاملة ومتكاملة، تستخدم منهجيات تعلم حديثة وتفاعلية، وتركز على بناء الكفاءات التي تعزز الرشاقة والمرونة، وتعتمد على سيناريوهات تحاكي واقع الأزمات المحتملة. كما يتطلب الأمر قيادة حكومية تؤمن بأهمية التعلم المستمر وتدعم ثقافة تنظيمية تشجع على المبادرة والابتكار والقدرة على التكيف.

يتبيّن مما سلف أنّقدرة أي دولة متقدمة على الإبحار بنجاح في خضم التقلبات الاقتصادية العالمية المتزايدة، تعتمد بشكل أساسي على مدى رشاقة مؤسساتها الحكومية وكفاءة ومرونة موظفيها. فالاستثمار المتواصل والموجه نحو بناء القدرات البشرية من خلال التدريب النوعي والمستمر، لا يمثل فقط آلية لتطوير المهارات، بل هو حجر الزاوية في بناء صرح المرونة الوطنية الشاملة. إنها الركيزة التي تمكن الدولة من امتصاص الصدمات، والتكيف مع المتغيرات، والخروج من الأزمات أكثر قوة وقدرة على تحقيق الازدهار المستدام لمواطنيها.

Loading

Talk to us now