ترسيخ ثقافة الامتثال في بيئة العمل الحكومي بما يعزز الأداء ويحد من المخالفات

بـ قلم : المستشار الدكتور أحمد عبد المجيد الحاج

-

دولة الإمارات العربية المتحدة

إن شرعية أي نظام وقوة مؤسسات الدولة لا تُقاس فقط بمدى تطبيقها للقانون على مواطنيها، بل وبشكل أساسي بمدى التزامها هي ذاتها بمبادئ سيادة القانون والعدالة في تعاملاتها الداخلية. وفي هذا الإطار، يكتسب الامتثال الدقيق والصارم لقوانين وأنظمة العمل داخل المؤسسات الحكومية بعداً يتجاوز كونه مجرد تنظيم إداري أو وظيفة من وظائف الموارد البشرية؛ إنه يمثل تجسيداً حياً لالتزام الدولة بمبادئ الحكم الرشيد، وانعكاساً لمدى جديتها في تطبيق القيم التي تنادي بها على نفسها أولاً. وهذا الالتزام الداخلي لا يتحقق تلقائياً، بل يتطلب بناء ثقافة مؤسسية راسخة وجهوداً حثيثة لرفع الوعي وبناء القدرات، يأتي في مقدمتها التدريب المستمر. فالطريقة التي تعامل بها الدولة موظفيها، ومدى احترامها لحقوقهم والتزامها بواجباتها تجاههم كما تحددها الأطر القانونية، ليست شأناً داخلياً فحسب، بل هي رسالة قوية للمجتمع بأسره حول نزاهة الدولة ومصداقيتها كأساس للاستقرار والتنمية.

لا يمكن اختزال الالتزام بقوانين وأنظمة العمل في مجرد اتباع القواعد لتجنب المساءلة؛ إنه يمثل واجباً أخلاقياً جوهرياً يقع على عاتق الدولة بصفتها صاحب عمل. هذا الواجب ينبع من ضرورة احترام الكرامة الإنسانية للموظفين، وضمان معاملتهم بإنصاف وعدالة، والوفاء بالالتزامات التعاقدية والضمنية تجاههم. عندما تلتزم المؤسسة الحكومية بنصوص وروح القوانين المنظمة للعمل – سواء تعلقت بالأجور، أو ساعات العمل، أو الإجازات، أو بيئة العمل الآمنة، أو الحماية من التمييز، أو الحق في التظلم – فهي لا تطبق القانون فحسب، بل ترسل إشارة واضحة بأنها تقدر رأسمالها البشري وتلتزم بأعلى المعايير الأخلاقية في تعاملاتها. ويسهم التدريب المتخصص في ترسيخ هذه الأبعاد الأخلاقية، وتزويد الموظفين بإطار لاتخاذ قرارات مسؤولة تتماشى مع المتطلبات القانونية والقيم المهنية. هذا الالتزام الأخلاقي هو ما يبني الثقة الداخلية ويغرس الشعور بالانتماء والولاء لدى الموظفين.

تحتل الحكومة دوراً فريداً ومؤثراً كـ”صاحب عمل نموذجي” في المجتمع. فالمعايير التي تطبقها على موظفيها غالباً ما تشكل سقفاً أو مرجعاً للممارسات في القطاع الخاص وتؤثر في الثقافة العمالية السائدة في البلاد. وعندما تضرب الحكومة مثالاً إيجابياً من خلال تطبيق صارم وعادل لقوانين العمل، وتوفير ظروف عمل لائقة، واحترام حقوق الموظفين، فإنها لا ترفع فقط من معاييرها الداخلية، بل تساهم في رفع مستوى الممارسات العمالية في الاقتصاد الوطني ككل. ويشمل ذلك تدريب المدراء والمشرفين بشكل خاص على كيفية تطبيق هذه المعايير النموذجية في ممارساتهم اليومية، بدءًا من التوظيف وصولاً إلى إدارة الأداء وتقييم الاحتياجات التدريبية. وعلى العكس، فإن أي تراخٍ أو تجاوز من قبل المؤسسات الحكومية في تطبيق هذه القوانين يضعف موقفها الأخلاقي والقانوني في مطالبة الآخرين بالالتزام، ويضر بسمعتها كحارس للحقوق والعدالة.

يمثل الامتثال الصارم لأنظمة العمل ركيزة أساسية لمبادئ الحكم الرشيد داخل الجهاز الإداري للدولة. فتطبيق مبدأ “سيادة القانون” يتجلى بوضوح في التطبيق المتسق وغير المتحيز لهذه الأنظمة على جميع الموظفين بمختلف مستوياتهم. وتوفر هذه الأنظمة أساساً واضحاً لـ”المساءلة”، حيث يمكن محاسبة المسؤولين عن أي تقصير أو تجاوز في تطبيقها، كما تمنح الموظفين إطاراً للمطالبة بحقوقهم. وتعزز “الشفافية” من خلال وضوح الحقوق والواجبات والإجراءات المتبعة في التوظيف والترقية وتقييم الأداء وإنهاء الخدمة. والأهم من ذلك، أنها ترسخ مبادئ “العدالة والإنصاف” من خلال ضمان معاملة جميع الموظفين على قدم المساواة، ومكافحة كافة أشكال التمييز، وتوفير فرص متكافئة للجميع، مما يدعم قيم العدالة الاجتماعية التي تسعى الدولة لتحقيقها.

ولضمان ترسيخ ثقافة الامتثال هذه، لا يكفي مجرد وجود القوانين والأنظمة، بل يتطلب الأمر بناء منظومة متكاملة تشمل عدة عناصر أساسية. يجب أن تكون الأطر القانونية والتنظيمية واضحة، ومتاحة للجميع، وأن يتم تحديثها بشكل دوري لمواكبة التغيرات. ولا بد أيضاً من وجود آليات رقابة ومتابعة فعالة، سواء من خلال إدارات موارد بشرية مؤهلة ومستقلة، أو هيئات رقابية متخصصة. إلى جانب ذلك، يشكل التدريب الفعال والمستمر حجر الزاوية في بناء ثقافة الامتثال، ويجب أن يتجاوز مجرد سرد القوانين ليشمل برامج شاملة لجميع الموظفين حول حقوقهم وواجباتهم الأساسية، وأخرى متخصصة للمدراء والمشرفين تركز على مسؤولياتهم في التطبيق العادل للقوانين وإدارة الممارسات اليومية بشكل سليم، بالإضافة إلى تدريب معمق على الأخلاقيات المهنية وصنع القرار المسؤول، مع تحديث دوري لهذه البرامج لضمان مواكبتها للمستجدات؛ فهذا الاستثمار في التدريب يضمن فهماً مشتركاً وتطبيقاً متسقاً للقواعد. كما يجب توفير قنوات تظلم وإنصاف فعالة ونزيهة وسرية، تتيح للموظفين الإبلاغ عن أي مخالفات دون الخوف من الانتقام. وأخيراً، يبقى التزام القيادة العليا في المؤسسة بنشر ثقافة الاحترام للقانون والعدالة، وتطبيق مبدأ عدم التسامح مطلقاً مع المخالفات، هو الضمانة الأقوى لنجاح هذه المنظومة.

إن تبعات عدم الامتثال لقوانين وأنظمة العمل داخل المؤسسات الحكومية تتجاوز المخاطر الفردية لتطال شرعية المؤسسة وأداءها. فالانتهاكات قد تؤدي إلى دعاوى قضائية مكلفة، وعقوبات مالية، وتشويه سمعة الحكومة كصاحب عمل وكراعٍ للقانون. كما أنها تؤدي حتماً إلى تدهور الروح المعنوية للموظفين، وانخفاض مستويات الإنتاجية والالتزام، وزيادة معدلات دوران العمالة. والأخطر من ذلك، أنها تقوض ثقة الجمهور في نزاهة الجهاز الحكومي وفعاليته، وتخلق شعوراً بالازدواجية عندما ترى الدولة تطالب الآخرين بما لا تلتزم به هي نفسها.

في المحصلة النهائية، إن الالتزام الدقيق والمبدئي بقوانين وأنظمة العمل داخل أروقة المؤسسات الحكومية ليس مجرد إجراء إداري أو التزام قانوني سطحي. إنه تعبير عميق عن هوية الدولة والتزامها بسيادة القانون، وهو أساس بناء علاقة الثقة والاحترام المتبادل بين الدولة وموظفيها، وبين الدولة ومواطنيها. إنه يبني الأساس الداخلي للثقة والعدالة، المدعوم بالوعي والمعرفة المكتسبة عبر التدريب، وهو الأساس الضروري لإدارة عامة فعالة ومحترمة وشرعية قادرة على خدمة مواطنيها بشكل جيد. إنه استثمار في بناء جهاز إداري كفء ونزيه وفعال، قادر على خدمة المجتمع وتحقيق أهداف التنمية، ومؤهل ليكون مثالاً يحتذى به في تطبيق مبادئ العدالة والحكم الرشيد. فسيادة القانون، بكل ما تحمله من معنى، تبدأ فعلاً من الداخل.

Loading

Talk to us now