تعزيز القدرات الحكومية المؤسسية بما يدعم الابتكار ويحفّز النمو الاقتصادي

بـ قلم : د. نيفين حسين

-

دولة الإمارات العربية المتحدة

يرتبط المسار الاقتصادي للدول المتقدمة وقدرتها على الحفاظ على زخم النمو والابتكار بشكل وثيق ومتزايد بمدى كفاءة وفعالية جهازها الإداري العام. حيث لم تعد النماذج الاقتصادية تعتمد فقط على رأس المال المادي أو التكنولوجي، بل وبشكل حاسم على جودة رأس المال البشري الذي يدير دفة السياسات وينفذ الخدمات العامة. ومن هذا المنطلق، لا يُعتبر التأهيل الاحترافي للموظفين الحكوميين مجرد عملية تدريبية، بل هو متغير استراتيجي أساسي، ومدخل حاسم يؤثر بشكل مباشر ومتسلسل في مخرجات أداء القطاع العام، والتي تُترجم بدورها إلى نتائج ومحصلات اقتصادية ملموسة. يهدف هذا التحليل إلى تتبع المسارات السببية الرئيسية التي يوضح من خلالها كيف يتحول الاستثمار الموجه نحو بناء القدرات المهنية لموظفي الدولة إلى محرك فاعل للتنمية الاقتصادية المستدامة والقدرة التنافسية في الاقتصادات المتقدمة.

تتمثل إحدى أبرز حلقات التأثير المباشر للتأهيل الاحترافي في الارتقاء بالكفاءة التشغيلية للمؤسسات الحكومية. فعندما يتم تزويد الموظفين بالمهارات المتقدمة في مجالات مثل إدارة المشاريع، وتحسين العمليات، واستخدام الأدوات الرقمية بفعالية، وإدارة الموارد المالية والبشرية وفقاً لأفضل الممارسات، فإن ذلك يؤدي حتماً إلى تسريع وتيرة إنجاز المهام، وتقليل الأخطاء التشغيلية، وإزالة الاختناقات البيروقراطية، وتحسين دقة تنفيذ الميزانيات. هذا التحسن في الكفاءة الداخلية لا يقتصر أثره على خفض التكاليف الإدارية للدولة فحسب، بل يُترجم أيضاً إلى تقليل العبء الإداري والتكاليف غير المباشرة التي يتحملها القطاع الخاص والمواطنون عند تفاعلهم مع الأجهزة الحكومية، مما يحرر موارد اقتصادية يمكن توجيهها نحو الاستثمار والإنتاج، ويعزز من بيئة ممارسة الأعمال بشكل عام.

يمتد الأثر السببي للتأهيل الاحترافي ليشمل بشكل حاسم دورة السياسات العامة، من التصميم إلى التنفيذ والتقييم. فالموظفون المؤهلون يمتلكون القدرات التحليلية والبحثية اللازمة لصياغة سياسات قائمة على الأدلة والبراهين، وتقييم الآثار المحتملة للبدائل المختلفة بموضوعية، وتصميم أطر تنظيمية تتسم بالمرونة والفعالية وتحفز النشاط الاقتصادي بدلاً من إعاقته. كما أن مهارات التخطيط الاستراتيجي والتنفيذ والمتابعة التي يكتسبونها تضمن ترجمة السياسات من مجرد نصوص إلى واقع ملموس يحقق الأهداف المرجوة. هذه القدرة على إنتاج وتنفيذ سياسات اقتصادية واجتماعية أكثر اتساقاً وفعالية وقابلية للتنبؤ، تُعد عاملاً جوهرياً في بناء ثقة المستثمرين، وجذب رؤوس الأموال طويلة الأجل، وضمان استقرار الاقتصاد الكلي، وتوجيه الدعم الحكومي بذكاء نحو القطاعات الواعدة أو لمعالجة الاختلالات الهيكلية.

علاوة على ذلك، يؤدي التأهيل الاحترافي إلى تحسين ملموس في جودة وتجربة الخدمات العامة، مما ينعكس إيجاباً على رفاهية المواطنين وتنمية رأس المال البشري للمجتمع ككل. الموظفون الذين يتلقون تدريباً متخصصاً في مجالات مثل التصميم المرتكز على المستخدم، وإدارة علاقات المتعاملين، والتواصل الفعال، واستخدام قنوات الخدمة الرقمية، يصبحون أكثر قدرة على تقديم خدمات تلبي احتياجات المواطنين بفاعلية وسهولة وسرعة. إن تحسين جودة الخدمات الأساسية كالتعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية، لا يرفع فقط من مستوى معيشة المواطنين ورضاهم، بل يساهم بشكل مباشر في بناء قوة عاملة أكثر صحة وتعليماً وإنتاجية، وهو ما يمثل أحد أهم ركائز النمو الاقتصادي طويل الأمد. كما أن سهولة الوصول إلى الخدمات الحكومية بكفاءة يقلل من الوقت والتكلفة المهدرة من قبل الأفراد والشركات.

ولا يمكن إغفال الدور الحاسم للتأهيل الاحترافي في ترسيخ مبادئ الحوكمة الرشيدة وتعزيز جودة المؤسسات، وهي عوامل أثبتت الدراسات ارتباطها الوثيق بالنمو الاقتصادي. فالبرامج التأهيلية التي تركز على أخلاقيات المهنة، ومعايير الشفافية، وآليات المساءلة، ومكافحة الفساد، تساهم في بناء جهاز إداري يتسم بالنزاهة والمصداقية. هذه النزاهة المؤسسية تُترجم إلى تقليل مخاطر الاستثمار، وحماية حقوق الملكية بشكل أفضل، وضمان تكافؤ الفرص والمنافسة العادلة في السوق، مما يعزز من جاذبية الاقتصاد. كما أن زيادة ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة، الناتجة عن شفافية الأداء والمساءلة، تسهل عملية بناء التوافق المجتمعي حول السياسات الاقتصادية الضرورية وتزيد من استعداد الجمهور للمشاركة والتعاون.

إن الدول المتقدمة التي تواصل تحقيق أداء اقتصادي قوي تدرك هذه الروابط السببية جيداً، ولذلك تستثمر بشكل استراتيجي ومستمر في منظومات شاملة لتأهيل وتطوير موظفيها الحكوميين. لا يقتصر الأمر على دورات تدريبية متفرقة، بل يشمل إدارة متكاملة للمواهب تبدأ من الاستقطاب والاختيار، مروراً ببرامج التأهيل الأساسي والشهادات المهنية المتخصصة، وصولاً إلى فرص التعليم التنفيذي والتطوير المهني المستمر، وربط كل ذلك بمسارات وظيفية واضحة وتقييم أداء موضوعي. وغالباً ما يتم تصميم هذه المنظومات بالشراكة مع الجامعات المرموقة والهيئات المهنية والقطاع الخاص لضمان ملاءمتها لاحتياجات العصر ومتطلبات الاقتصاد التنافسي.

يتبيّن مما سلف أنّ التأهيل الاحترافي للموظفين الحكوميين ليس مجرد عامل مساعد، بل هو أحد المكونات السببية الأساسية في معادلة التنمية الاقتصادية والقدرة التنافسية للدول المتقدمة. فالاستثمار المدروس والمستدام في بناء كفاءات وقدرات موظفي القطاع العام يُترجم بشكل مباشر ومن خلال مسارات متعددة إلى كفاءة تشغيلية أعلى، وسياسات أكثر فعالية، وخدمات ذات جودة أرقى، وحوكمة أكثر رشادة، وكلها عوامل تصب في نهاية المطاف في تحقيق نمو اقتصادي قوي ومستدام، وتعزيز رفاهية المجتمع. لذلك، فإن إيلاء الأهمية القصوى وتخصيص الموارد الكافية لبرامج التأهيل والتطوير المهني المستمر في القطاع العام يمثل ضرورة استراتيجية غير قابلة للتفاوض لأي دولة تطمح للحفاظ على موقعها الريادي في الاقتصاد العالمي.

Loading

Talk to us now