تمكين أفراد أمن المؤسسات الحكومية من أداء الواجب إلى تعزيز الصورة المؤسسية

بـ قلم : العقيد عدنان العتوم

-

دولة الإمارات العربية المتحدة

لم تعد المؤسسات الحكومية الحديثة مجرد هياكل إدارية، بل هي نقاط التقاء حيوية بين الدولة والمجتمع، تعج بالحركة والتفاعل الإنساني اليومي. في قلب هذا المشهد الديناميكي، يقف أفراد الأمن ليس فقط كحراس للمباني والممتلكات، بل كنقطة الاتصال الأولى وواجهة المؤسسة التي يتعامل معها الجمهور بشكل مباشر. لقد شهد دورهم تحولاً جوهرياً، متجاوزاً مهام الحراسة التقليدية ليشمل إدارة التفاعلات البشرية المعقدة، والحفاظ على النظام في بيئات قد تكون مشحونة أحياناً، وتمثيل قيم المؤسسة التي ينتمون إليها. هذا التطور يفرض حتمية إعادة النظر في طبيعة التأهيل المطلوب، مؤكداً أن القوة البدنية أو الإلمام بالإجراءات لم يعدا كافيين؛ فالكفاءة السلوكية أصبحت اليوم ركيزة أساسية للأداء الفعال والشرعية المؤسسية. إن الاستثمار في صقل المهارات السلوكية لأفراد الأمن لم يعد خياراً، بل هو ضرورة استراتيجية لتمكينهم من أداء دورهم المتنامي بمهنية واقتدار.

إن الاعتماد الحصري على النموذج الأمني التقليدي القائم على السيطرة والمراقبة الفيزيائية يغفل عن تعقيدات البيئة الحكومية المعاصرة. فأفراد الأمن يتعاملون يومياً مع طيف واسع من المواطنين، لكل منهم احتياجاته وتوقعاته، وأحياناً إحباطاته. في هذا السياق، تصبح المهارات السلوكية أدوات لا غنى عنها لإدارة المواقف بفعالية ومنع التصعيد. فالقدرة على التواصل المتقدم – الذي يشمل الاستماع النشط لفهم ما وراء الكلمات، والتحدث بوضوح واحترام حتى في الظروف الصعبة، وتفسير الإشارات غير اللفظية بدقة لتقييم الموقف مبكراً – تمثل مفتاحاً لنزع فتيل التوترات المحتملة وبناء جسور من الثقة بدلاً من حواجز الخوف أو الريبة. إن فرد الأمن الذي يتقن هذه المهارات لا يحل المشكلات فحسب، بل يساهم في بناء رأس المال العلائقي للمؤسسة مع جمهورها.

يمثل الذكاء العاطفي حجر الزاوية في الكفاءة السلوكية لأفراد الأمن في السياق الحكومي. فالوعي الذاتي، أي فهم الفرد لانفعالاته ونقاط قوته وضعفه وتحيزاته المحتملة، هو نقطة البداية. ويأتي بعد ذلك التنظيم الذاتي، وهو القدرة على التحكم في ردود الفعل، والحفاظ على الهدوء والاتزان تحت الضغط أو الاستفزاز. تتكامل هذه مع التعاطف، وهو محاولة فهم وجهة نظر الآخرين ودوافعهم، حتى وإن بدت غير مبررة، مما يسهل إيجاد أرضية مشتركة. وأخيراً، تترجم هذه الأبعاد إلى مهارات اجتماعية فعالة في إدارة العلاقات، وحل النزاعات بطرق بناءة، والتفاوض للوصول إلى حلول مقبولة. بالإضافة إلى ذلك، فإن التمييز الأخلاقي والحصافة المهنية يكتسبان أهمية قصوى؛ فالقدرة على اتخاذ قرارات صائبة ومسؤولة في مواقف غامضة أخلاقياً، مع الحفاظ على النزاهة والسرية، تعكس التزام فرد الأمن بقيم الخدمة العامة والمؤسسة التي يمثلها.

إن العائد الاستراتيجي للاستثمار في تطوير الكفاءة السلوكية لأفراد الأمن يتجاوز تحسين الأداء الفردي ليترك بصمة واضحة على المؤسسة بأكملها. فعلى المستوى التشغيلي، يؤدي ذلك إلى تقليل الشكاوى، وخفض معدلات الحوادث المتصاعدة، وتيسير تدفق العمليات اليومية، وتحسين فعالية الاستجابة للحوادث من خلال تواصل وتنسيق أفضل. والأهم من ذلك، أنه يساهم في تعزيز الشرعية المؤسسية؛ فكل تفاعل إيجابي ومهني بين فرد الأمن والجمهور يبني جسراً من الثقة ويعزز الصورة الذهنية الإيجابية للمؤسسة الحكومية ككل، محولاً رجل الأمن من مجرد حارس إلى سفير حقيقي للمؤسسة. داخلياً، يسهم هذا النوع من التدريب في رفع الروح المعنوية لأفراد الأمن، وزيادة رضاهم الوظيفي، وتقليل معدلات الدوران الوظيفي، من خلال تزويدهم بالأدوات اللازمة للتعامل مع ضغوط العمل بفعالية والشعور بالتقدير لمهنيتهم. كما أنه يمثل أداة فعالة لإدارة المخاطر السمعية والقانونية، حيث يقلل السلوك المهني من احتمالية وقوع حوادث قد تضر بسمعة المؤسسة أو تعرضها للمساءلة.

لتحقيق هذه النتائج، يجب تصميم برامج التدريب على المهارات السلوكية بعناية فائقة لتكون مؤثرة ومستدامة. ينبغي الانتقال من التلقين النظري إلى التعلم التجريبي القائم على الممارسة والتفاعل. تعد المحاكاة الواقعية لسيناريوهات مستمدة من بيئة العمل الفعلية، وتمثيل الأدوار مع تقديم تغذية راجعة بناءة ومناقشات جماعية لتحليل المواقف، أدوات بالغة الأهمية لترسيخ المهارات. يجب أن تتضمن البرامج أيضاً وحدات حول فهم أساسيات علم النفس السلوكي، وإدارة الضغوط المهنية، والتعرف على التحيزات اللاواعية وتجنبها. الأهم من ذلك، يجب أن يُنظر إلى التدريب على أنه عملية تطوير مهني مستمر، وليس حدثاً منقطعاً، يتضمن المتابعة والتقييم الدوريين، وتقديم الدعم والتوجيه المستمر، وتحديث المحتوى ليتماشى مع التحديات المستجدة والاحتياجات المتغيرة للمؤسسة والجمهور.

وهكذا يتضح أنّ  الارتقاء بالكفاءة السلوكية لأفراد الأمن في المؤسسات الحكومية استثماراً استراتيجياً لا غنى عنه في بناء جهاز أمني حديث وفعال، قادر على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين. إن تزويد هؤلاء الأفراد بالمهارات اللازمة للتواصل بفعالية، وإدارة الانفعالات بحكمة، واتخاذ القرارات بمسؤولية، لا يعزز فقط من مستوى الأمن والسلامة، بل يحولهم إلى عناصر فاعلة في تحسين جودة الخدمة العامة، وتعزيز ثقة الجمهور، وترسيخ صورة إيجابية عن المؤسسة التي يمثلونها كسفراء لها. إن الالتزام بتوفير تدريب سلوكي عالي الجودة ومستمر هو، في جوهره، التزام بتطوير رأس المال البشري الأمني، وهو حجر الزاوية للحوكمة الرشيدة وتحقيق التميز في الأداء المؤسسي.

Loading

Talk to us now