دور المرونة التشريعية في تشكيل الميزة التنافسية لاقتصاد الإمارات المستقبلي

بـ قلم : المستشار الدكتور هيثم عبدالمجيد محمود العربي

-

دولة الإمارات العربية المتحدة

في ساحة الاقتصاد العالمي المعاصر، الذي يتسم بالتنافسية الشديدة والتحولات المتسارعة، لم تعد المقومات التقليدية كالموقع الجغرافي أو الموارد الطبيعية كافية وحدها لضمان الريادة والازدهار. لقد أصبحت “البيئة التشريعية” بحد ذاتها عاملاً حاسماً وميزة تنافسية جوهرية تتسابق الدول على صقلها. وفي هذا السياق، تقدم دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجاً عالمياً رائداً في فهم واستخدام التشريع ليس كأداة تنظيمية جامدة، بل كأداة استراتيجية ديناميكية وحجر زاوية لتحقيق مستهدفات رؤاها الاقتصادية المستقبلية. إن نهج “المرونة التشريعية” الذي تتبناه الدولة لا يمثل مجرد تحديث للقوانين، بل هو عقلية ومنظومة عمل متكاملة تهدف إلى خلق بيئة استثمارية وتجارية هي الأكثر جاذبية ومرونة واستشرافاً للمستقبل على مستوى العالم، مع تركيز خاص على قطبين حيويين: استقطاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتمكين الاقتصاد الرقمي واقتصاد المعرفة.

إن استقطاب رؤوس الأموال والشركات العالمية يتطلب أكثر من مجرد بنية تحتية متطورة؛ إنه يتطلب “اليقين القانوني” المقترن بالمرونة التجارية. وقد أدركت الإمارات ذلك مبكراً، فقادت عملية تطوير مستمرة وممنهجة لمنظومتها التشريعية التجارية والاستثمارية. تمثلت أبرز خطواتها في التحديث الجذري لقانون الشركات التجارية، الذي سمح بالتملك الأجنبي الكامل بنسبة 100% للشركات في غالبية القطاعات الاقتصادية، مما أزال إحدى أهم العقبات التاريخية أمام المستثمرين الدوليين ومنحهم حرية وتحكماً كاملاً في استثماراتهم. وترافق ذلك مع تبسيط هائل لإجراءات تأسيس وممارسة الأعمال، وتقليص المتطلبات البيروقراطية، وتوفير نماذج قانونية مرنة للشركات تتناسب مع مختلف الأحجام والأغراض. علاوة على ذلك، عززت الدولة من جاذبيتها عبر تحديث الأطر القانونية المتعلقة بالإقامة والعمل، وتوفير منظومات قضائية متخصصة وفعالة (كمحاكم مركز دبي المالي العالمي وسوق أبوظبي العالمي) التي تعمل وفقاً لأفضل الممارسات الدولية، مما يوفر للمستثمرين بيئة آمنة وموثوقة لحل النزاعات. هذه الإصلاحات مجتمعة لا تشكل مجرد تحسينات، بل هي رسالة استراتيجية واضحة للعالم بأن الإمارات توفر بيئة تشريعية مُمَكِّنة ومنافسة عالمياً.

وفي موازاة ذلك، تتعامل الإمارات بمرونة استشرافية مع متطلبات الاقتصاد الجديد القائم على الرقمنة والمعرفة. فبينما تقف التشريعات التقليدية في كثير من الدول عاجزة أمام سرعة الابتكار التكنولوجي، بادرت الإمارات إلى بناء أطر تنظيمية حديثة مصممة خصيصاً لدعم هذا القطاع الحيوي. ويبرز في هذا المجال إصدار قوانين متقدمة لحماية البيانات، مستلهمة من أفضل المعايير العالمية كاللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR)، مما يعزز الثقة في التعامل مع البيانات ويجعل الدولة مركزاً آمناً للخدمات الرقمية. كما تم وضع تشريعات متخصصة للأصول الاftراضية والتكنولوجيا المالية (FinTech) لتوفير اليقين القانوني الذي تحتاجه الشركات العاملة في هذه المجالات المبتكرة. ولتسريع وتيرة الابتكار، تبنت الدولة مفهوم “صناديق الاختبار التنظيمية” (Regulatory Sandboxes)، التي تتيح للشركات الناشئة والمبتكرين تجربة منتجاتهم وتقنياتهم الجديدة في بيئة حية وبإشراف رقابي، مما يسمح بتطوير تشريعات مستقبلية قائمة على التجربة والأدلة بدلاً من الافتراضات النظرية. هذا النهج الاستباقي في التشريع للاقتصاد الرقمي يحول الإمارات من مجرد مستخدم للتكنولوجيا إلى مساهم رئيسي في صياغة مستقبلها التنظيمي.

إن تحقيق هذه الدرجة العالية من المرونة التشريعية ليس وليد الصدفة، بل هو نتاج منظومة حوكمة متكاملة ترتكز على رؤية قيادية واضحة تضع التنافسية الاقتصادية كأولوية قصوى. وتعتمد هذه المنظومة على آليات عمل فعالة تشمل التشاور المستمر والمنهجي مع القطاع الخاص والمستثمرين لفهم احتياجاتهم وتحدياتهم، والمقارنة المعيارية المستمرة مع أفضل الممارسات التشريعية في الاقتصادات الأكثر تقدماً حول العالم، وتشكيل فرق عمل متخصصة ومرنة لدراسة وتطوير القوانين بسرعة وكفاءة. هذا النموذج يضمن أن تظل البيئة التشريعية في الدولة ليس فقط مواكبة للتطورات، بل سبّاقة في توقعها وتشكيلها.

ولضمان استدامة وفعالية هذا النهج الديناميكي، يبرز التدريب الاستراتيجي والمتقدم كعامل حاسم في بناء القدرات البشرية القادرة على صياغة وتنفيذ هذه التشريعات المتقدمة. فلا يمكن تحقيق المرونة التشريعية الحقيقية بالاعتماد فقط على الرؤية القيادية أو الآليات الإجرائية؛ بل يتطلب الأمر وجود كوادر حكومية من المشرعين والمنظمين والمستشارين القانونيين الذين يمتلكون فهماً عميقاً لأحدث الممارسات التنظيمية العالمية وللتقنيات الجديدة التي يسعون لتنظيمها. وهنا تكمن القيمة المضافة للتدريب الاحترافي، فهو يزود هذه الكوادر بالمعرفة اللازمة حول الأطر التنظيمية المقارنة، وتقنيات تقييم الأثر التشريعي، وأساليب التشاور مع القطاع الخاص، مما يضمن أن تكون القوانين الجديدة ليست فقط مرنة، بل أيضاً محكمة وفعالة وقادرة على الصمود. علاوة على ذلك، فإن التدريب يبني لغة مشتركة وثقة متبادلة بين مختلف الجهات الحكومية، ويعزز من مصداقية الدولة كشريك معرفي ومتمكن في حوارها مع مجتمع الاستثمار والابتكار العالمي. إن الاستثمار في تدريب العقول التي تصيغ قوانين المستقبل هو استثمار مباشر في جودة ومتانة البيئة التشريعية بأكملها.

خلاصة القول ، تُظهر تجربة الإمارات أن التشريع في القرن الحادي والعشرين لم يعد مجرد مجموعة من القواعد الثابتة، بل هو أصل استراتيجي حيوي ومكون أساسي من مكونات القوة الاقتصادية للدولة. إن المرونة التشريعية، القائمة على الاستشراف والتشاور والتطوير المستمر، هي حجر الزاوية الذي يمكن الدولة من التكيف السريع مع المتغيرات العالمية، وخلق بيئة أعمال لا مثيل لها في جاذبيتها، ودعم الأجيال الجديدة من القطاعات الاقتصادية. وبهذا النهج، تضمن الإمارات أن تظل منظومتها القانونية عاملاً ممكّناً ومحفزاً، لا عائقاً، في مسيرتها نحو تحقيق مستهدفات رؤاها الاقتصادية الطموحة وترسيخ مكانتها كمركز عالمي رائد للاستثمار والابتكار.

Loading