دور الوعي الأمني الفردي ولغة الجسد في إطار المسؤولية المشتركة

بـ قلم : العقيد محمد سالم الكندي

-

دولة الإمارات العربية المتحدة

نظراً للطبيعة المعقدة والمتغيرة للعصر الحديث، تطورت مفاهيم الأمن لتتجاوز الأطر التقليدية التي كانت تحصره في نطاق مسؤوليات الأجهزة الحكومية الرسمية. تشهد الدول المتقدمة تحولاً نموذجياً نحو إرساء مفهوم “المسؤولية الأمنية المشتركة”، والذي يعترف بالدور الحيوي للمواطن كشريك فاعل في منظومة الأمن الشامل. وفي قلب هذه الشراكة، يبرز “الوعي الأمني الفردي” أو ما يُعرف بـ “الحس الأمني” ككفاءة جوهرية لا غنى عنها. يستهدف هذا المقال استكشاف أبعاد هذا المفهوم، مسلطاً الضوء بشكل خاص على أهمية فهم لغة الجسد والإشارات غير اللفظية، ومستعرضاً الاستراتيجيات المتبعة لتعزيز هذه المهارات، وأثرها العميق على استقرار ورخاء المجتمعات الحديثة.

لا يقتصر الوعي الأمني الفردي على مجرد رد الفعل تجاه الخطر، بل هو حالة ذهنية استباقية تتضمن القدرة المتكاملة على الملاحظة الواعية للبيئة المحيطة، وتقييم المواقف بموضوعية، وتحديد مصادر التهديد المحتملة – سواء كانت فيزيائية، معلوماتية أو اجتماعية. يتضمن ذلك تطوير مهارة فهم “السلوك القاعدي” (Baseline Behavior) للأفراد والأماكن، ومن ثم رصد أي “شذوذ سلوكي” (Anomaly) أو مؤشرات قد تنبئ بخطر وشيك. يتطلب بناء هذا الحس التغلب على عوامل مثل الرضا عن النفس أو التشتت الذهني، وتبني عقلية المراقبة اليقظة والمستمرة. إنها القدرة على الانتقال بمرونة بين مستويات مختلفة من الانتباه، واتخاذ قرارات مدروسة تحت الضغط للحفاظ على السلامة الشخصية وسلامة المحيطين.

تعتبر قراءة لغة الجسد وفهم آليات التواصل غير اللفظي مكوناً أساسياً في تطوير الوعي الأمني. ففي كثير من الأحيان، تكشف الإشارات الجسدية ما قد تخفيه الكلمات، مقدمةً دلائل قيمة حول النوايا الحقيقية، الحالة العاطفية (مثل التوتر الشديد، الخوف، أو العدوانية)، أو محاولات الخداع. تشمل هذه الإشارات نطاقاً واسعاً من التعبيرات الدقيقة (Micro-expressions) التي تظهر للحظات على الوجه، وتغيرات في وضعية الجسد، وأنماط التواصل البصري، وحركات اليدين والقدمين اللاإرادية، واستخدام الشخص للمساحة المحيطة به (Proxemics). ومع ذلك، من الأهمية بمكان التأكيد على أن تفسير لغة الجسد يجب أن يتم بحذر شديد وضمن سياق الموقف، مع مراعاة الفروق الثقافية الفردية، وتجنب القفز إلى استنتاجات متسرعة. الهدف ليس إصدار الأحكام، بل جمع مؤشرات إضافية تساهم في تقييم أكثر شمولية للموقف.

تتبنى الدول المتقدمة استراتيجيات وطنية شاملة ومتعددة الأوجه لغرس وتعزيز الوعي الأمني لدى مواطنيها، إدراكاً منها لأهميته الاستراتيجية. تتجاوز هذه الجهود مجرد الحملات الإعلامية التقليدية لتشمل التكامل التعليمي بإدراج مفاهيم السلامة الشخصية والوعي الأمني ضمن المناهج الدراسية، وتنظيم برامج تدريب متخصص وورش عمل تستهدف شرائح متنوعة من المجتمع لتطوير مهارات عملية، وإطلاق حملات توعوية مستمرة عبر وسائل الإعلام المختلفة والمنصات الرقمية، وتشجيع الشراكة المجتمعية عبر مبادرات تعزز التعاون والتواصل الفعال بين المواطنين والأجهزة الأمنية كمبدأ “إذا رأيت شيئًا، أبلغ عن شيء”، بالإضافة إلى بناء شراكات بين القطاعين العام والخاص لتطبيق برامج أمنية وتوعوية للموظفين والعملاء.

إن الاستثمار في تنمية الوعي الأمني الفردي والمجتمعي يؤتي ثماره على مستويات متعددة، مساهماً بشكل مباشر في بناء مجتمعات أكثر أماناً، استقراراً، وازدهاراً. فهو يحد من الجريمة من خلال الردع والكشف المبكر، ويعزز المرونة المجتمعية في مواجهة الأزمات والكوارث، ويبني الثقة بين المواطنين والأجهزة الأمنية، ويحسن المناخ الاقتصادي عبر جذب الاستثمارات ودعم السياحة وتقليل تكاليف الجريمة، ويرسخ أسس التنمية المستدامة التي يتطلبها التقدم الاجتماعي والاقتصادي.

على الرغم من أهمية هذه الجهود، تواجه عملية بناء الوعي الأمني تحديات مستمرة، منها ضرورة الحفاظ على زخم المشاركة المجتمعية، وضمان وصول البرامج لجميع شرائح المجتمع دون تمييز، وتجنب إثارة الهلع غير المبرر أو المساهمة في التنميط القائم على التحيزات. كما يتطلب المشهد الأمني المتغير، لاسيما مع تزايد التهديدات السيبرانية-الفيزيائية، تحديثاً مستمراً للمحتوى التدريبي والأساليب التوعوية. يمثل دمج التقنيات الحديثة، مثل الذكاء الاصطناعي في تحليل الأنماط السلوكية أو استخدام المنصات التفاعلية للتعلم، فرصة واعدة، ولكنه يطرح أيضاً اعتبارات تتعلق بالخصوصية والأخلاقيات. يبقى الهدف المستقبلي هو ترسيخ الوعي الأمني كجزء لا يتجزأ من ثقافة المجتمع وقيمه، وتعزيزه كمهارة حياتية أساسية تكتسب ويتم صقلها على مدى العمر.

إجمالاً، لم يعد الأمن شأناً نخبوياً أو مسؤولية حصرية للدولة، بل هو نتاج تضافر جهود جماعية تبدأ من الفرد. إن تنمية الوعي الأمني، بما في ذلك القدرة الحاسمة على قراءة لغة الجسد وفهم ديناميكيات المواقف المختلفة، تشكل خط الدفاع الأول والأكثر أهمية في مواجهة تحديات عالمنا المعاصر. وتؤكد تجارب الدول المتقدمة أن الاستثمار المدروس والمستمر في بناء هذه الكفاءة لدى المواطنين هو استثمار في أمن واستقرار المجتمع بأسره، وركيزة أساسية لمستقبل أكثر أماناً وازدهاراً للأجيال القادمة. إن بناء “ثقافة أمنية استباقية” هو ضرورة حتمية وليست خياراً ترفياً.

Loading

Talk to us now