من الأزمة إلى الفرصة: كيف تصنع المرونة الفرق في عصر اللايقين؟

بـ قلم : أ.د. ايهاب فؤاد محمود الحجاوي

-

الإمارات العربية المتحدة

الأزمات والكوارث الكبرى ليست مجرد أحداث استثنائية، بل هي لحظات فارقة تكشف حقيقة قوة الدول والمجتمعات. ففي لحظات الانهيار أو الخطر الشديد، يُختبر العقد الاجتماعي الذي يربط الدولة بمواطنيها: هل تنجح الدولة في حشد مواردها وتوجيهها بفعالية؟ وهل يمتلك المواطنون القدرة على الصمود والمشاركة الإيجابية؟ هنا يبرز مفهوم المرونة باعتباره حجر الزاوية في تحويل الأزمة من عبء ساحق إلى فرصة للنمو والابتكار. المرونة ليست مجرد مصطلح نظري، بل هي قدرة عملية تتجلى في مستويين متكاملين: مرونة المجتمع من الأسفل إلى الأعلى، ومرونة المؤسسات من الأعلى إلى الأسفل. وعندما يعمل المستويان بتناغم، تصنع الدولة الفرق وتحوّل الأزمة إلى فرصة حقيقية لإبراز قوتها.

أولاً: مرونة المجتمع – رأس المال الذي لا يُقدّر بثمن

المجتمعات الواعية والمستعدة تمثل المخزون الاستراتيجي لأي دولة. مرونة الأفراد والمجتمع هي خط الدفاع الأول عند وقوع الأزمات، وتظهر في عدة صور؛ فهي تبدأ بالوعي الاستباقي بالمخاطر، حيث إن المواطن الذي يعرف مسبقًا المخاطر المحتملة وكيفية التعامل معها يتصرف بثبات عند وقوع الكارثة. وتتجلى في قدرة المجتمعات التي تمتلك شبكات محلية قوية على التنظيم الذاتي للاستجابة داخليًا، من توزيع الموارد إلى حماية الفئات الأضعف. كما سمحت المنصات الرقمية الحديثة بتفعيل التطوع الرقمي والميداني، مما أتاح حشد آلاف المتوعين في دقائق للمشاركة في عمليات الإغاثة. وفي جوهر كل ذلك تكمن روح التكافل، فالتضامن الاجتماعي يمنع انهيار الأفراد تحت الضغط النفسي، ويعزز قدرة الجميع على الصمود معًا. هذه المرونة المجتمعية لا تظهر فجأة، بل هي ثمرة الثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع على مدى سنوات.

ثانيًا: مرونة المؤسسات – السرعة والرشاقة في اتخاذ القرار

المؤسسات الحكومية هي العمود الفقري للاستجابة الوطنية، لكن قوتها لا تكمن في حجمها أو سلطتها فقط، بل في رشاقتها وسرعة استجابتها. تتحقق هذه المرونة عبر الاعتماد على قرارات مبنية على البيانات، من خلال نظم إنذار مبكر وقواعد بيانات دقيقة تسمح بالتحرك الفوري. كما أن التواصل الشفاف عبر رسائل واضحة ومستمرة يمنع الشائعات ويبني الثقة. وتتطلب المرونة أيضاً إدارة الموارد بذكاء، عبر توزيعها وفق الأولويات وتخصيصها بشكل ديناميكي لضمان الاستجابة الفعالة. وأخيراً، فإن تطبيق اللامركزية المحسوبة، عبر منح السلطات المحلية مرونة اتخاذ القرار السريع دون الوقوع في البيروقراطية، يعد أمراً حيوياً. فالمؤسسة المرنة هي التي تستطيع قيادة الجهود الكبرى وتفويض التفاصيل للمجتمع المحلي الذي يعرف أرضه واحتياجاته.

ثالثًا: حين يلتقي المجتمع بالدولة – قوة التآزر

القوة الحقيقية تنشأ عندما تتناغم مرونة المجتمع مع مرونة الدولة. عندها يتحقق التآزر الذي يحوّل الأزمة إلى فرصة. وفي تجربة الإمارات في جائحة كوفيد-19، قادت الهيئة الوطنية لإدارة الطوارئ والأزمات والكوارث (NCEMA) استجابة حكومية شاملة، بينما أظهر المجتمع التزاماً واسعاً وحشدًا تطوعيًا ضخمًا عبر المنصات الرقمية، مما أنتج نموذجًا عالميًا للتلاحم والثقة. أما في تجربة ألمانيا في فيضانات 2021، فبينما قادت الهيئات الرسمية عمليات الإنقاذ، تدفق آلاف المتطوعين لمساندة المتضررين، وتحولت شبكات التواصل الاجتماعي إلى غرفة عمليات شعبية لتنسيق الجهود، مما أثبت أن المجتمع المنظم يضاعف كفاءة الدولة. وتجسد تجربة أستراليا في حرائق “الصيف الأسود” 2019-2020 نموذج الشراكة المؤسسية، حيث شكلت “دائرة الإطفاء الريفية (RFS)” المكونة من آلاف المتطوعين المدربين خط الدفاع الأول، مظهرة كيف أن الاستثمار الطويل في تمكين المجتمع يحشد قوة ضخمة تعتمد على المعرفة المحلية العميقة.

رابعًا: الاستثمار في التدريب وبناء القدرات

المرونة لا تتحقق بقرارات لحظية، بل باستثمار طويل الأمد في التدريب والتجهيز. على مستوى المواطنين، يتطلب الأمر حملات توعية مستمرة بالإسعافات الأولية، وفهم أنظمة الإنذار، والتثقيف الرقمي لتمييز الأخبار الصحيحة عن الشائعات. وعلى مستوى المؤسسات، يجب تدريب القادة والموظفين على الإدارة الرشيقة، والاتصال الفعّال تحت الضغط، وإدارة الشراكات المعقدة. كما يجب إدماج الشركات الحيوية في القطاع الخاص، كشركات الاتصالات والطاقة والخدمات اللوجستية، في تدريبات مشتركة لضمان استمرارية الخدمات الحيوية. فكل ساعة تدريب قبل الأزمة تعادل أيامًا من الجهد وقت وقوعها.

خامسًا: المناعة المجتمعية ضد الخوف

الخوف والهلع في الكوارث غالبًا ما ينتجان عن الجهل والشعور بالعجز. عندما يعرف الناس ما يجب فعله، يتحول الخوف إلى ثقة، وتتحول الفوضى إلى خطة عمل. فالموظف الحكومي المدرب يصبح قدوة ومصدر هدوء لمحيطه، والمواطن الواعي يتحول من ضحية منتظرة إلى مستجيب أولي فعّال. هذا ما نسميه بـ “المناعة المجتمعية”، وهي رأس المال النفسي والمعنوي الذي يمنح الدولة وقتاً ثميناً لتنظيم استجابتها الكبرى، معتمدة على مجتمع قادر على امتصاص الصدمة الأولى.

سادسًا: من الأزمة إلى الفرصة

الأزمات لا تعني النهاية، بل قد تكون نقطة انطلاق جديدة. فالدولة المرنة والمجتمع المرن قادران على تحويل الأزمة إلى لحظة تعلم جماعي، وبناء ثقة أقوى بين المواطن والدولة، وتعزيز مكانة الدولة إقليميًا ودوليًا من خلال نموذج استجابة ناجح يظهر مدى تلاحمها وقدرتها. إن الاستثمار في بناء مجتمع واعٍ ومستعد، ومؤسسات حكومية رشيقة، وشراكات فعالة مع القطاع الخاص، هو ما يحوّل الأزمات من اختبارات قاسية إلى فرص لإظهار قوة الدولة.

الخلاصة: المرونة ليست خيارًا بل استثمار استراتيجي

في عالم يتسم بعدم اليقين وتزايد الكوارث، تصبح المرونة الوطنية هي الأصل الاستراتيجي الأكثر قيمة. فالدولة التي تبني الثقة مع مجتمعها تكسب التزاماً شعبيًا في الأزمات، والدولة التي تستثمر في التدريب والجاهزية تقلل من خسائرها وتعزز سرعة استجابتها، والمجتمع الذي يتحمل المسؤولية يتحول من متلقي سلبي إلى شريك نشط في صناعة الحل. إن المرونة هي ما يجعل من الأزمة فرصة، ومن التحدي منطلقًا للابتكار والتماسك الوطني.

Loading