تعميم ثقافة السفير والمتحدث الرسمي في المؤسسات الاحترافية

بـ قلم : أحمد مأمون شبيب

-

دولة الإمارات العربية المتحدة

تتعرض المصداقية المؤسسية للحكومات لاختبار مستمر بفعل التدفق اللحظي للمعلومات وتفشي الروايات المضللة، الأمر الذي يجعل من بناء الثقة العامة مهمة استراتيجية أكثر إلحاحاً وتعقيداً. فلم يعد نموذج الاتصال الحكومي التقليدي، الذي يعتمد على بيانات صحفية رسمية ومتحدثين مركزيين قلائل، كافياً لبناء علاقة متينة وموثوقة مع مجتمع أفراده أكثر اطلاعاً وتطلباً وتواصلاً من أي وقت مضى. من هذا المنطلق، يبرز تحول استراتيجي حتمي في مفهوم “صوت الحكومة”، حيث لم يعد هذا الصوت منبعثاً من قمة الهرم الإداري فحسب، بل أصبح النتيجة الجماعية لتصرفات وأصوات جميع موظفي الدولة لذا إن تعميم وتبني ثقافة “الموظف السفير” و”المتحدث الخبير” لم يعد مجرد ممارسة مبتكرة في العلاقات العامة، بل أصبح ركيزة أساسية لاستراتيجية الحكم الرشيد، ووسيلة حيوية لإعادة بناء الثقة وتجسيد الوجه الإنساني والمهني للدولة.

إن المفهوم الأساسي لهذه الثقافة هو أن كل تفاعل بين موظف حكومي ومواطن أو مقيم أو مستثمر هو “لحظة حقيقة” (Moment of Truth) تساهم إما في بناء الثقة أو تآكلها. فسواء كان ذلك في مركز خدمة المتعاملين، أو أثناء زيارة تفتيشية، أو عبر رد على استفسار بالبريد الإلكتروني، فإن سلوك الموظف ومهنيته وكفاءته وتعاطفه يشكلون في مجملهم تجربة مباشرة للمتعامل مع “الدولة” نفسها. لذلك، يتجاوز دور “الموظف السفير” مجرد الترويج لسمعة المؤسسة، ليمثل تجسيداً لالتزام الدولة بقيم الخدمة العامة والنزاهة والعدالة والكفاءة. ويتطلب بناء هذه القاعدة التأسيسية تحولاً من ثقافة التركيز على الإجراءات إلى ثقافة ترتكز على الإنسان، ويستلزم ذلك تزويد جميع الموظفين بتدريب أساسي ومستمر في أخلاقيات الوظيفة العامة، ومبادئ التواصل الفعال، ومهارات التعامل مع المتعاملين، بالإضافة إلى ترسيخ فهم عميق لرؤية المؤسسة وقيمها وأهدافها، ليشعر الموظف بأنه جزء لا يتجزأ من رسالة أكبر ويفتخر بتمثيلها.

وبينما يمثل كل موظف سفيراً بقيمه وسلوكه، فإن المستوى المتقدم لهذه الثقافة يكمن في بناء شبكة منظمة ومؤهلة من “المتحدثين الخبراء”. لا يعني هذا أن كل موظف مخول بالتصريح لوسائل الإعلام، بل هي استراتيجية متعمدة لتحديد أصحاب المعرفة الفنية والتخصصية العميقة داخل المؤسسات الحكومية (مثل كبار الأطباء، أو المهندسين، أو الاقتصاديين، أو خبراء السياسات)، ومن ثم تأهيلهم ليكونوا أصواتاً موثوقة في مجالاتهم. ويشمل هذا التأهيل برامج تدريب متقدمة على فنون الخطابة العامة، والتعامل الإعلامي، وتبسيط المفاهيم المعقدة للجمهور، وفهم حدود الصلاحيات والالتزام بالرسائل المؤسسية المعتمدة. إن وجود هذه الشبكة من الخبراء يشكل درعاً واقياً من المعلومات المضللة والشائعات، حيث يمكنهم تقديم معلومات دقيقة وموثوقة وفي الوقت المناسب، مما يعزز بشكل كبير من مصداقية الحكومة ويحولها إلى مرجع معرفي موثوق في أعين الجمهور.

إن تبني هذه الثقافة بثنائيتها (السفير العام والمتحدث الخبير) يحقق عوائد استراتيجية تتجاوز مجرد تحسين الصورة الإعلامية للمؤسسة. أولاً، تساهم في بناء علاقة أكثر إنسانية وأصالة مع الجمهور، حيث يُنظر إلى أصوات الموظفين والخبراء على أنها أكثر صدقاً وقرباً من البيانات الرسمية الجامدة. ثانياً، تحسين جودة تقديم الخدمات العامة، لأن الموظف الذي يشعر بأنه سفير سيكون أكثر حرصاً على تقديم تجربة خدمة متميزة. ثالثاً، زيادة فعالية السياسات العامة، فعندما يتم شرح السياسات وتوضيحها من قبل خبراء موثوقين، يرتفع مستوى فهم وقبول الجمهور لها، مما يسهل عملية التنفيذ. رابعاً، تعزيز جاذبية القطاع الحكومي كبيئة عمل، مما يساهم في استقطاب أفضل الكفاءات والمواهب والاحتفاظ بها. خامساً، بناء مرونة مؤسسية في مواجهة الأزمات، حيث يمكن لشبكة واسعة من السفراء المطلعين والمؤمنين برسالة مؤسستهم أن تساهم في إدارة الروايات وتصحيح المفاهيم وتطمين الجمهور بشكل فعال وسريع.

ويتطلب غرس هذه الثقافة وتعميمها خارطة طريق واضحة ومدروسة تبدأ من القمة، وتشمل التزاماً واضحاً من القيادة العليا بنمذجة هذا السلوك وتشجيعه. ويستلزم ذلك وضع “ميثاق تواصلي” أو رواية مؤسسية موحدة تحدد الرسائل والقيم الأساسية التي يجب أن يتمحور حولها صوت المؤسسة الجماعي. كما يتطلب بناء منظومة “تدريب متدرجة” تشمل تدريباً تأسيسياً في مبادئ السفارة المؤسسية وآداب الحضور الرقمي لكافة الموظفين، وتدريباً متخصصاً لموظفي الخطوط الأمامية على مهارات التواصل المتقدمة والتعاطف، وتدريباً مكثفاً للنخبة من الخبراء على مهارات التحدث الإعلامي والعام. بالإضافة إلى ذلك، يجب وضع “سياسات وأطر توجيهية” واضحة (مثل سياسة استخدام الموظفين لوسائل التواصل الاجتماعي) تكون ممكّنة وموجهة بدلاً من أن تكون مقيدة، وتوفر للموظفين الثقة للمشاركة بمسؤولية. ولا بد من تعزيز “ثقافة الشفافية والمعلومات الداخلية”، فلا يمكن للموظف أن يكون سفيراً فعالاً إذا كان هو نفسه لا يملك المعلومة الدقيقة والحديثة. وأخيراً، يجب تقدير ومكافأة الموظفين الذين يجسدون هذه الثقافة بامتياز، لتشجيع الآخرين على الاقتداء بهم.

ولترجمة هذه الرؤية الاستراتيجية إلى واقع ملموس، يبرز التدريب المستهدف والممنهج كأداة لا غنى عنها والمحرك الأساسي للتحول. فلا يمكن بناء ثقافة “السفير” أو “المتحدث الخبير” بمجرد إصدار التوجيهات، بل يتطلب ذلك بناءً مدروساً للقدرات. يضمن التدريب تزويد كافة الموظفين بالمهارات الأساسية للتواصل الفعال والتعاطف وفهم عميق للقيم المؤسسية، مما يحول كل نقطة اتصال مع الجمهور إلى فرصة لتعزيز الثقة. وفي الوقت نفسه، يتولى التدريب المتقدم صقل مهارات النخبة من الخبراء في مجالات الخطابة العامة والتعامل الإعلامي، ليصبحوا أصواتاً قوية ومقنعة لمؤسساتهم. إن الاستثمار في منظومة تدريبية متكاملة ومتدرجة هو ما يضمن الاتساق في الرسائل، ويرفع من مستوى الثقة والكفاءة لدى الموظفين، ويشكل الجسر الذي تعبر من خلاله المؤسسة من مجرد الرغبة في التغيير إلى امتلاك القدرة الحقيقية على تحقيقه.

في المحصلة النهائية، إن بناء وتعميم ثقافة السفير والمتحدث الرسمي في المؤسسات الاحترافية ليس مجرد خيار لتحسين الاتصال، بل هو استثمار استراتيجي في أثمن أصول الدولة: ثقة مواطنيها. إنه يتعلق بإضفاء الطابع الإنساني على جهاز الدولة، وتعزيز الحوار الحقيقي مع المجتمع، وإثبات الكفاءة والنزاهة من خلال أفعال وأصوات موظفيها. هذا النهج، الذي يضع الإنسان في صميمه، هو السبيل لإعادة بناء جسور الثقة، وتعزيز شرعية المؤسسات الحكومية، وخلق قطاع عام أكثر استجابة وفعالية وقدرة على تحقيق تطلعات شعوبه في القرن الحادي والعشرين.

Loading