كثيراً ما تواجه المؤسسات الاحترافية، الحكومية منها والخاصة، معضلة محيرة: استثمارات ضخمة في برامج التدريب والتطوير، يقابلها أثر ضئيل أو منعدم على أرض الواقع في تحسين الأداء. تظهر الأعراض واضحة في شكل موظفين يعودون من الدورات التدريبية بنفس المهارات والعادات القديمة، وشعور متنامٍ باللامبالاة والسخرية تجاه أي مبادرة تدريبية جديدة، وميزانيات تهدر دون تحقيق العائد المرجو. وفي مواجهة هذه الظاهرة، غالباً ما تتجه أصابع الاتهام نحو تشخيصات سطحية، كضعف دافعية المتدربين، أو عدم ملاءمة محتوى الدورة، أو حتى كفاءة المدرب الذي نفذ البرنامج الأخير. لكن هذه التشخيصات، رغم صحتها أحياناً، غالباً ما تفشل في كشف السبب الجذري والأخطر، وهو بمثابة “فيروس” كامن في منظومة الجودة، ينتشر بصمت ويحدث ضرراً متسلسلاً: كارثة “تدريب المدربين” (Train-the-Trainer) عندما تتم على أيدي غير المؤهلين.
إن برامج تدريب المدربين (TOT) هي برامج عالية التأثير بشكل استثنائي؛ فهي لا تستهدف تطوير فرد واحد، بل تهدف إلى خلق “مضاعفات للكفاءة” (Competency Multipliers)، أي أفراد قادرون على نقل المعرفة والمهارة إلى عشرات أو مئات غيرهم. ونظراً لهذه الطبيعة الحساسة، فإن أي خلل في جودة هذه البرامج لا يبقى محصوراً، بل يتحول إلى “عدوى من الرداءة” تتكاثر وتنتشر عبر طبقات المؤسسة. وتنشأ هذه الكارثة عندما يتم إسناد مهمة تدريب المدربين إلى شخص “غير مؤهل”، وهذا لا يعني بالضرورة شخصاً يفتقر للمعلومات، بل قد يكون خبيراً في مجاله الفني ولكنه يجهل تماماً “علم وفن التدريب” (Andragogy & Pedagogy). إنه الشخص الذي يخلط بين تقديم عرض تقديمي وتيسير عملية تعلم حقيقية، وبين إلقاء المعلومات وبناء المهارات، وبين اختبار الذاكرة وتقييم الكفاءة.
يمكن تشريح هذه الكارثة المتسلسلة وتتبع مسار انتشارها عبر الأجيال التدريبية داخل المؤسسة. تبدأ القصة مع الجيل الأول (G1)، وهو المدرب غير المؤهل الذي يقود برنامج تدريب المدربين. يقوم هذا الشخص بتقديم برنامج يركز على المحتوى النظري، ويستخدم أساليب تلقينية، ويفتقر إلى التطبيقات العملية العميقة، ويمنح شهادة “مدرب معتمد” بناءً على الحضور أو اختبار سطحي. من هذا البرنامج يتخرج الجيل الثاني (G2)، وهم مجموعة من “المدربين الجدد” الذين تعلموا نموذجاً تدريبياً مشوهاً. يمتلكون شهادة تمنحهم الثقة، لكنهم يفتقرون للكفاءة الحقيقية في تصميم وتقديم تجارب تعليمية مؤثرة. إنهم قادرون على تقليد الأنشطة التي رأوها، لكنهم عاجزون عن تحقيق أهداف التعلم الفعلية. ثم يأتي دور هؤلاء المدربين من الجيل الثاني ليدربوا الجيل الثالث (G3)، وهم الموظفون النهائيون في المؤسسة. يتلقى هؤلاء الموظفون تدريباً باهتاً، غير تفاعلي، منفصلاً عن واقع عملهم، ومبنياً على أسس تربوية ضعيفة. وتكون النتيجة النهائية هي موظفون لم يكتسبوا المهارات المطلوبة، وشعور عميق بخيبة الأمل، وترسيخ ثقافة سلبية تجاه التدريب ككل، وإهدار كامل للموارد، وفشل في تحقيق الأهداف التي تم تصميم التدريب من أجلها من الأساس. وهكذا، تستمر دورة “عدوى الرداءة” في التكاثر.
إن كسر هذه السلسلة المدمرة يتطلب تحولاً جذرياً في النظرة إلى برامج تدريب المدربين، والانتقال من اعتبارها مجرد دورة متقدمة إلى كونها عملية استراتيجية دقيقة ومضبوطة. هذا التحول يقوم على مبادئ أساسية لا يمكن التنازل عنها، وهي ما يميز “التدريب المتقن والموجه”.
- أولاً، الاختيار الدقيق للمرشحين: لا ينبغي أن تكون برامج تدريب المدربين متاحة للجميع، بل يجب أن تستهدف أفراداً يمتلكون سمتين أساسيتين: خبرة عميقة وموثوقة في مجال تخصصهم، وسمات شخصية وقدرات كامنة تؤهلهم ليكونوا مدربين فعالين، مثل مهارات التواصل، والتعاطف، والشغف بمساعدة الآخرين على التطور.
- ثانياً، المنهج التدريبي الشامل والمتعمق: يجب أن يغطي منهج تدريب المدربين ما هو أبعد من مجرد مراجعة المحتوى الفني. يجب أن يركز بشكل أساسي على الكفاءات التربوية، مثل فهم نظريات تعلم الكبار، وتصميم الأهداف التدريبية بفعالية، وتطوير المواد التدريبية التفاعلية، وإتقان أساليب التقديم والتيسير وإدارة المجموعات، وتصميم أدوات تقييم تقيس الكفاءة وليس فقط المعرفة.
- ثالثاً، التقييم القائم على الأداء: إن شهادة “مدرب معتمد” يجب أن تُمنح فقط بعد إثبات المرشح لقدرته الفعلية على تقديم تدريب ناجح. يتطلب ذلك جلسات تدريب عملية يقوم بها المرشحون، يتم خلالها تقييمهم من قبل خبراء وتقديم تغذية راجعة بناءة، مع ضرورة إظهار تحسن وتطور ملموس في الأداء.
- رابعاً، التوجيه الاستراتيجي للبرنامج: يجب أن يكون كل برنامج لتدريب المدربين مصمماً خصيصاً (“موجهاً”) لخدمة أهداف استراتيجية واضحة في المؤسسة. يجب أن يكون مرتبطاً بفجوات الأداء التي تسعى المؤسسة لسدها، وأن تكون نتائجه قابلة للقياس من خلال أثر المدربين الجدد على أداء فرقهم ومؤسستهم.
أخيرًا وليس آخرًا ، إن برامج تدريب المدربين تمثل نقطة ارتكاز عالية التأثير في أي منظومة تطويرية؛ فهي إما أن تكون نقطة المنشأ “لعدوى الرداءة” التي تضعف النظام بأكمله، أو أن تكون المحرك الأقوى “لتضخيم الكفاءة” ونشر الجودة في جميع أنحاء المؤسسة. إن الالتزام بمعايير التدريب المتقن والموجه هو بمثابة “التطعيم” الذي يحصن المؤسسة ضد رداءة الأداء. فهو لا يضمن فقط أن الجيل القادم من المدربين يمتلك المعرفة الصحيحة، بل يضمن أيضاً امتلاكهم للمهارة الحقيقية في نقل هذه المعرفة وتيسير اكتسابها من قبل الآخرين. هذا الاستثمار الدقيق في بناء قادة تدريب أكفاء ومؤهلين هو الطريقة الوحيدة لكسر سلسلة الجودة المتدهورة، وبناء ثقافة تعلم حقيقية ومستدامة، وضمان أن تكون كل ساعة وكل مورد يتم استثماره في التدريب خطوة فعلية نحو تحقيق التميز والأداء العالي.