الأبعاد الأخلاقية للاستعانة بمدربين من القطاع الخاص في المالية العامة

بـ قلم : أ.د .فلاح الحسيني

-

الإمارات العربية المتحدة

في سعي المؤسسات الحكومية الدؤوب نحو التميز وتطوير كفاءة كوادرها، يبرز خيار الاستعانة بخبرات القطاع الخاص كأداة جذابة لتسريع وتيرة التعلم، خاصة في مجال المالية العامة المعقد والمتجدد. فالمدربون المتخصصون من الشركات الخاصة غالباً ما يجلبون معهم معرفة متقدمة بأحدث المعايير المالية الدولية، وخبرة عملية في أدوات التحليل المالي المتطورة، ورؤى تطبيقية من قلب بيئة الأعمال التنافسية. ومع ذلك، فإن هذا المسار، رغم جاذبيته، ليس مجرد قرار إداري بسيط، بل يفتح الباب أمام مجموعة من الأبعاد الأخلاقية العميقة والمخاطر المحتملة التي يجب تحليلها وإدارتها بحكمة ودقة. فالسؤال الجوهري ليس ما إذا كان يمكن الاستفادة من هؤلاء المدربين، بل كيف يمكن تسخير خبراتهم دون المساس بالقيم الأساسية وبوصلة المصلحة العامة التي يجب أن تحكم العمل المالي الحكومي.

إن الضرر المحتمل لا يكمن في شخص المدرب، بل في “تضارب القيم” الجوهري بين القطاعين. فالفلسفة المالية في القطاع الخاص، بطبيعتها، تدور حول تعظيم الربح، وزيادة قيمة حقوق المساهمين، وتحقيق ميزة تنافسية. ومن هذا المنطلق، قد تكون الأدوات والتقنيات المالية التي يبرع فيها المدرب مصممة لخدمة هذه الأهداف، مثل استراتيجيات التخطيط الضريبي المتقدمة لتقليل الأعباء الضريبية للشركة. وعند نقل هذه العقلية والمهارات بشكل غير مرشح إلى موظفي المالية الحكومية، الذين تتمثل مهمتهم في تحصيل الإيرادات العامة بعدالة وكفاءة وإدارة المال العام لتحقيق الصالح العام، ينشأ خطر حقيقي. قد يؤدي ذلك إلى تبني ممارسات لا تتوافق مع روح الخدمة العامة، أو التركيز على الكفاءة المالية على حساب العدالة الاجتماعية والشفافية.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه الإشكالية غالباً ما تتفاقم عبر “بيوت الخبرة” أو المؤسسات التدريبية الوسيطة. ففي سعيها لتلبية متطلبات العقود الحكومية وتوفير “خبير متخصص”، قد تقوم هذه المؤسسات بالتعاقد مع مدربين ذوي خلفيات لامعة في القطاع الخاص، دون إيلاء اهتمام كافٍ لمدى ملاءمة خبراتهم ومنهجياتهم للسياق الحكومي الفريد. وفي هذه الحالة، تعمل المؤسسة التدريبية كحلقة وصل قد تفتقر هي نفسها للقدرة على تكييف المحتوى أو توجيه المدرب، مما يضاعف من خطر نقل قيم وممارسات غير متوافقة، ويضع عبء التيقظ بالكامل على عاتق الجهة الحكومية المستفيدة.

يتجاوز الأمر تضارب القيم ليصل إلى مخاطر عملية ملموسة. تضارب المصالح يمثل أحد أبرز هذه المخاطر؛ فالمدرب الذي يأتي من شركة استشارية أو محاسبية قد تكون لها تعاملات حالية أو مستقبلية مع نفس الجهة الحكومية، قد يستخدم منصة التدريب بشكل مباشر أو غير مباشر للتأثير على القرارات المستقبلية أو جمع معلومات استخباراتية عن المناقصات أو التوجهات الحكومية. كما أن سرية البيانات تشكل تحدياً حقيقياً، حيث يطلع المدرب الخارجي على دراسات حالة وأنظمة وإجراءات مالية داخلية قد تكون حساسة، مما يستدعي وجود ضوابط صارمة لحماية أمن المعلومات.

يضاف إلى ذلك خطر “الجهل السياقي”. فالمدرب الخاص، مهما بلغت خبرته، قد يفتقر إلى فهم عميق للسياق التشريعي والرقابي الفريد الذي يحكم المالية العامة، كقوانين الميزانية العامة، وقواعد المشتريات الحكومية، وآليات الرقابة من قبل ديوان المحاسبة أو السلطة التشريعية. وبالتالي، قد يقدم حلولاً أو توصيات، تكون سليمة تماماً في بيئة الشركات، لكنها غير قابلة للتطبيق أو حتى مخالفة للقانون في البيئة الحكومية، مما يسبب إرباكاً للموظفين وقد يؤدي إلى أخطاء إدارية.

ويتخذ هذا القصور في الخبرة بعداً أكثر خطورة عند التعامل مع مجالات مالية حساسة وعملياتية بطبيعتها، مثل مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب (AML/CTF). فالاستعانة بمدرب يمتلك معرفة أكاديمية أو نظرية فقط بالقوانين، دون أن يمتلك خبرة عملية ميدانية في التحقيق المالي أو رصد المعاملات المشبوهة، يؤدي إلى كارثة محققة. يمكن لهذا المدرب أن يشرح نصوص القانون، ولكنه يعجز عن شرح كيفية اكتشاف نمط معقد من التحويلات المصممة لإخفاء مصدر الأموال. والنتيجة هي تخريج موظفين “يعرفون” القواعد ولكنهم لا “يستطيعون” تطبيقها بفعالية، مما يخلق وهماً خطيراً بالكفاءة ويعرض الأمن المالي والمؤسسي للدولة لمخاطر جسيمة.

ولمواجهة هذه التحديات بفعالية وتحويل المخاطر المحتملة إلى فرص، يتوجب على المؤسسات الحكومية تبني إطار حوكمة صارم ومنهجية عمل واضحة لضمان الاستفادة القصوى من الخبرات الخارجية مع حماية المصلحة العامة. تبدأ هذه المنهجية بعملية تدقيق واختيار صارمة للمدرب أو بيت الخبرة، تشمل التحقق من خلوه من أي تضارب مصالح حالي أو مستقبلي، وإلزامه بتوقيع اتفاقيات محكمة لعدم الإفصاح والحفاظ على السرية. يتبع ذلك مرحلة حيوية وهي التطوير المشترك والإلزامي للمحتوى التدريبي، حيث يعمل خبراء داخليون من الجهة الحكومية جنباً إلى جنب مع المدرب الخاص “لتأطير” المحتوى الفني وتكييف الأمثلة ودراسات الحالة لتتوافق مع السياق والقيم واللوائح الحكومية. كما يُوصى بشدة بإخضاع المدرب الخاص لبرنامج توجيه وتعريف (Acculturation) مكثف حول منظومة القيم والأخلاقيات والمساءلة في الخدمة العامة قبل بدء التدريب. وأخيراً، يُفضل تطبيق نموذج التدريب التشاركي (Co-facilitation)، الذي يجمع بين المدرب الخبير لتقديم الجانب الفني المتقدم، ومدرب داخلي لتقديم السياق الحكومي وربط المادة بالواقع العملي للموظفين، مما يضمن تحقيق توازن مثالي بين المعرفة الفنية المتقدمة والسياق الحكومي الأصيل.

إن الضرر إذن ليس حتمياً، بل هو خطر يمكن إدارته والتخفيف من حدته. فالاستعانة بمدربين من القطاع الخاص يمكن أن تكون مفيدة للغاية إذا تمت ضمن إطار حوكمة أخلاقي واضح. يتضمن هذا الإطار: التدقيق الشامل في خلفية المدرب والمؤسسة التي يمثلها، والإلزام بتوقيع إقرارات تضارب المصالح واتفاقيات عدم الإفصاح، وفرض “التطوير المشترك للمحتوى التدريبي” لضمان ملاءمته للسياق الحكومي، وتطبيق نموذج “التدريب المشترك” الذي يجمع بين الخبرة الخارجية والسياق الداخلي.

وخلاصة القول، إن القرار بالاستعانة بمدرب من القطاع الخاص في المالية العامة يجب أن يكون قراراً مدروساً لا يعتمد فقط على الخبرة الفنية للمدرب، بل أيضاً على وجود منظومة ضوابط قوية تضمن حماية المصلحة العامة. فعندما يتم بناء جسر من الخبرة بين القطاعين الخاص والحكومي على أسس من الشفافية والوعي السياقي والالتزام الأخلاقي، يمكن تحويل هذا الخطر المحتمل إلى فرصة حقيقية لتطوير كفاءة المورد البشري الحكومي وتعزيز العائد المؤسسي، دون التضحية بالقيم الجوهرية للخدمة العامة.

Loading