لمواجهة مستقبل يتسم بالغموض وتشابك العوامل، أصبح النموذج التقليدي لـ “تخطيط الخلافة الوظيفية”، الذي يرتكز على تحديد بديل لكل منصب قيادي في هيكل تنظيمي هرمي صارم، نهجاً قاصراً وشديد الهشاشة. فهذا النموذج، المصمم لعالم مستقر يمكن التنبؤ به، يفشل في مواجهة حقيقة أن تحديات الغد قد تتطلب كفاءات ومهارات مختلفة جذرياً عن مهارات قادة اليوم، كما أنه يخلق نقاط ضعف حرجة عند مغادرة الأفراد الرئيسيين بشكل غير متوقع. لذا، فإن المؤسسات الاحترافية الرائدة، وخاصة في القطاع الحكومي حيث تمثل الاستمرارية ضرورة وطنية، تتجه اليوم نحو نموذج أكثر مرونة وديناميكية: بناء “منظومات لتنمية القيادة” تهدف إلى ضمان استمرارية “القدرة القيادية” في المؤسسة ككل، وليس مجرد ملء المناصب الشاغرة. جوهر هذا التحول يكمن في الانتقال من المسارات الوظيفية الخطية القائمة على الأقدمية والمنصب، إلى مسارات شبكية مرنة تعتمد على اكتساب وتطبيق الكفاءات والمهارات المستقبلية.
إن حجر الزاوية في هذا النموذج الحديث هو تطوير “إطار للكفاءات المستقبلية” يكون بمثابة البوصلة التي توجه كافة جهود التطوير. يتم بناء هذا الإطار ليس فقط بناءً على متطلبات الأدوار الحالية، بل بالاعتماد على استشراف استراتيجي للمستقبل، وتحليل للاتجاهات العالمية الكبرى (التكنولوجية، الاقتصادية، الاجتماعية)، وتحديد المهارات التي ستحتاجها المؤسسة للازدهار في بيئة الغد. وتشمل هذه الكفاءات غالباً مهارات مثل التفكير المنظومي (Systems Thinking) لفهم العلاقات المعقدة بين الأجزاء المختلفة، والطلاقة الرقمية والقدرة على تحليل البيانات لاتخاذ قرارات مستنيرة، والمرونة المعرفية والقدرة على التعلم المستمر، والقيادة المتعاطفة والقادرة على إدارة فرق متنوعة وموزعة، بالإضافة إلى القدرة على التعاون عبر الحدود الوظيفية والتخصصية. هذا الإطار يصبح هو اللغة المشتركة لتقييم وتطوير المواهب في المؤسسة.
وبناءً على إطار الكفاءات هذا، يتم الانتقال من مفهوم “السلم الوظيفي” إلى مفهوم “الشبكة الوظيفية” أو “الملعب الوظيفي” (Career Lattice/Jungle Gym). فبدلاً من أن يكون التقدم محصوراً في مسار عمودي واحد داخل إدارة معينة، يتم تشجيع الموظفين ذوي الإمكانات القيادية على بناء محفظة متنوعة من الخبرات والكفاءات من خلال التنقل الأفقي والمائل عبر مختلف الإدارات والمشاريع الاستراتيجية وفرق العمل متعددة التخصصات. في هذا النموذج، لا يكون التطور مرتبطاً فقط بالترقية إلى منصب أعلى، بل أيضاً بتولي مهام أكثر تعقيداً، أو قيادة مشروع مبتكر، أو اكتساب كفاءة جديدة مطلوبة استراتيجياً. إن هذا النهج يضمن تكوين قادة يمتلكون رؤية شاملة للمؤسسة بأكملها، وليس فقط خبرة عميقة في تخصص واحد منعزل، مما يجعلهم أكثر قدرة على التعامل مع التحديات المعقدة والمترابطة.
وتلعب “أحدث الأنظمة” والتكنولوجيا دوراً محورياً كعامل تمكين لهذا النموذج المرن. فمنصات “أسواق المواهب الداخلية” (Internal Talent Marketplaces) المدعومة بالذكاء الاصطناعي أصبحت قادرة على مطابقة الموظفين الذين يمتلكون مهارات وطموحات معينة مع الفرص المتاحة داخل المؤسسة (مشاريع، مهام مؤقتة، أدوار جديدة) بشفافية وكفاءة. كما تتيح “منصات تجربة التعلم” (Learning Experience Platforms – LXP) للموظفين الوصول إلى مسارات تطوير شخصية تدمج بين أنواع مختلفة من المحتوى (دورات إلكترونية، مقالات، فيديوهات، توجيه) وتكون مصممة خصيصاً لمساعدتهم على اكتساب الكفاءات المستقبلية المحددة في الإطار المؤسسي. وتوفر أدوات تحليل البيانات رؤى دقيقة لصناع القرار حول فجوات الكفاءات الموجودة في المؤسسة، وتحديد المواهب الواعدة في مراحل مبكرة، وقياس فعالية برامج التطوير المختلفة.
إن النتيجة النهائية لتبني هذا النهج الشامل هي بناء “خط أنابيب للقيادة” (Leadership Pipeline) أكثر قوة ومرونة وتنوعاً. فبدلاً من وجود عدد محدود من الخلفاء المحتملين لعدد قليل من المناصب، يصبح لدى المؤسسة مجموعة واسعة من الأفراد الذين يمتلكون الكفاءات الأساسية للقيادة، ويمكن لأي منهم تولي مسؤوليات أكبر عند الحاجة. هذا يقلل بشكل كبير من المخاطر المرتبطة بفقدان المواهب الرئيسية، ويزيد من قدرة المؤسسة على التكيف السريع مع التغيرات في استراتيجيتها أو بيئتها التشغيلية، ويضمن استمرارية الأداء وتحقيق الأهداف طويلة الأمد دون انقطاع.
وفي المحصلة، إن ضمان استمرارية القيادة في المؤسسات الحكومية الاحترافية لم يعد يتعلق بوضع قوائم بأسماء الخلفاء، بل بتصميم منظومة متكاملة تزرع وتنمي ثقافة القيادة على كافة المستويات. إنه تحول من التفكير في الأفراد إلى التفكير في القدرات، ومن الهياكل الصارمة إلى الشبكات المرنة، ومن التطوير التفاعلي إلى الاستثمار الاستباقي في بناء الكفاءات التي يتطلبها المستقبل. هذا النهج لا يضمن فقط وجود قادة جاهزين لتحديات الغد، بل يبني مؤسسة بأكملها أكثر مرونة وذكاء وقدرة على التطور والازدهار في عالم دائم التغير.