مُسرِّع الكفاءات الحكومية

بـ قلم : مريم علي الكاس

-

الإمارات العربية المتحدة

تواجه المؤسسات الحكومية الاحترافية اليوم تحدياً استراتيجياً يتمثل في ضرورة تقليص الفجوة الزمنية بين تعيين الموظفين الجدد ووصولهم إلى أقصى مستويات الإنتاجية والكفاءة. فالنظم التقليدية لتأهيل الموظفين الجدد، رغم أهميتها، غالباً ما تتسم بالبطء والعمومية، وتتطلب وقتاً طويلاً لاستيعاب حجم المعلومات واللوائح والثقافة المؤسسية المعقدة، مما يؤخر من مساهمتهم الفعالة في تحقيق الأهداف. وفي ظل تسارع وتيرة التغيير التكنولوجي والمجتمعي، لم تعد هذه المقاربة التقليدية كافية. من هنا، يبرز نموذج مبتكر يَعِد بإحداث ثورة في هذا المجال، وهو الدمج المنهجي لأنظمة الذكاء الاصطناعي مع دورات تطوير الموظفين الجدد، ليعمل كـ “مُسرِّع للكفاءات الحكومية”، ويعيد تعريف رحلة الموظف الجديد بالكامل، محولاً إياها من عملية تأهيل نمطية إلى تجربة تطوير فائقة التخصيص، ذكية، وفعالة.

إن الرؤية خلف هذا النموذج تتجاوز مجرد استخدام التكنولوجيا كأداة مساعدة، لتصل إلى بناء نظام بيئي متكامل ومترابط لتنمية المواهب. تبدأ رحلة الموظف الجديد ليس بحضور ورش عمل عامة، بل بالخضوع لعملية تشخيص دقيقة تقودها أنظمة الذكاء الاصطناعي. تقوم هذه الأنظمة بتحليل مهارات الموظف الحالية، وخبراته السابقة، ونتائج تقييماته الأولية، ومقارنتها بإطار الكفاءات المطلوب للدور الوظيفي المحدد. وبناءً على هذا التحليل، يتم في دقائق إنشاء “مسار تطوير فائق التخصيص”، يركز بدقة على سد الفجوات المعرفية والمهارية لديه، متجاوزاً بذلك نهج “مقاس واحد يناسب الجميع” الذي يهدر الوقت في تكرار معلومات قد يمتلكها الموظف بالفعل.

يتكون هذا النظام البيئي من عدة ركائز تكنولوجية تعمل بتناغم. أولاً، منصات التعلم التكيفي التي تقدم المحتوى بأسلوب ديناميكي؛ حيث تتغير صعوبة ونوعية المواد التدريبية بناءً على أداء الموظف وتفاعله اللحظي، مع التركيز على نماذج التعلم المصغر (Micro-learning) التي تقدم وحدات معرفية صغيرة ومكثفة يسهل استيعابها. ثانياً، الموجه أو المرشد الافتراضي المدعوم بالذكاء الاصطناعي، وهو عبارة عن مساعد ذكي (Chatbot) متاح على مدار الساعة للإجابة على استفسارات الموظف الفورية حول الإجراءات والسياسات والأنظمة، مما يحرره من التردد في طرح الأسئلة ويمنحه إحساساً بالدعم المستمر. ثالثاً، بيئات المحاكاة والتدريب الغامرة، التي تستخدم تقنيات الواقع الافتراضي (VR) والواقع المعزز (AR) لخلق سيناريوهات عمل واقعية وآمنة، تتيح للموظف الجديد ممارسة المهارات الصعبة، مثل التعامل مع متعاملين غاضبين، أو اتخاذ قرارات في مواقف معقدة، والحصول على تغذية راجعة فورية وموضوعية من النظام حول أدائه. وأخيراً، لوحات متابعة الأداء التحليلية التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لتتبع تقدم الموظف، وتحديد الأنماط في عملية تطوره، وتنبيه المدراء والموجهين البشريين بشكل استباقي في حال وجود أي تحديات تتطلب تدخلاً إنسانياً.

ورغم الدور المحوري للتكنولوجيا، فإن نجاح هذا النموذج يعتمد بشكل أساسي على إعادة تعريف وتعميق “الدور الإنساني” في عملية التطوير، فهو لا يهدف إلى استبدال البشر، بل إلى تعزيز قدراتهم. فالذكاء الاصطناعي يتولى بكفاءة نقل المعرفة الإجرائية والتقنية، والإجابة على الأسئلة المتكررة، وتوفير فرص الممارسة، مما يحرر وقت المدراء والموجهين والمدربين البشريين للتركيز على الجوانب التي لا يمكن للآلة أن تقوم بها: غرس القيم وأخلاقيات الخدمة العامة، وتنمية مهارات الذكاء العاطفي والعمل الجماعي، وتقديم الإرشاد المهني والشخصي، ومناقشة الحالات المعقدة التي تتطلب حكمة وخبرة إنسانية، وتسهيل عملية الاندماج الثقافي والاجتماعي للموظف الجديد داخل المؤسسة. يصبح دور المشرف البشري دور “مدرب الأداء” (Performance Coach) والموجه الاستراتيجي، مستعيناً بالبيانات التي توفرها الأنظمة الذكية لتوجيه دعمه بشكل أكثر دقة وفعالية.

إن العوائد الاستراتيجية لتبني هذا النهج المبتكر على مستوى القطاع الحكومي هائلة. فهو يساهم في تقليص منحنى التعلم للموظفين الجدد بشكل كبير، ويسرّع من وصولهم إلى مرحلة الإنتاجية الكاملة، مما يعزز من كفاءة الأداء المؤسسي. كما أنه يرفع من مستوى الرضا الوظيفي والمشاركة لدى الموظفين الجدد الذين يشعرون بأن المؤسسة تستثمر في تطويرهم بطريقة شخصية وذكية، مما يزيد من احتمالية استمرارهم وبقائهم في المؤسسة. ويضمن هذا النموذج أيضاً مستوى عالياً من الاتساق في فهم وتطبيق الأنظمة والقوانين والأخلاقيات على مستوى المؤسسة بأكملها. والأهم من ذلك، أنه يساهم في بناء جيل جديد من موظفي الحكومة الذين يتمتعون بالطلاقة الرقمية والقدرة على التكيف، والجاهزية لمواكبة متطلبات حكومات المستقبل.

ولترجمة هذه الرؤية الطموحة إلى واقع تشغيلي فعال، يبرز التدريب المدعوم عبر أنظمة الذكاء الإصطناعي كعنصر تمكين محوري لا يقتصر على الموظف الجديد فحسب، بل يشمل المنظومة بأكملها. فهذا النظام الذكي، بكل إمكاناته، يبقى مجرد بنية تكنولوجية صامتة ما لم يتم تفعيله بقدرات بشرية مؤهلة. يتطلب ذلك أولاً، تأهيل “مصممي تجارب التعلم” القادرين على صياغة محتوى تدريبي عالي الجودة يتناسب مع طبيعة المنصات الرقمية التفاعلية. ويتطلب ثانياً، تدريب المدراء والموجهين البشريين على مهارات جديدة، أبرزها كيفية تحليل البيانات التي توفرها الأنظمة الذكية لتقديم توجيه دقيق وشخصي، وكيفية لعب دور المدرب والمعزز للجانب الإنساني الذي لا تغطيه التكنولوجيا. كما يتطلب ثالثاً، تزويد الموظفين الجدد أنفسهم بالتدريب الأولي الذي يمكنهم من التعامل بسلاسة مع أدواتهم التعليمية الذكية والاستفادة من كامل إمكانات مسارهم التطويري. إن هذا الاستثمار متعدد الأوجه في التدريب هو الضمانة الحقيقية لتحويل الإمكانات التكنولوجية للذكاء الاصطناعي إلى كفاءة ملموسة وإنتاجية مستدامة على أرض الواقع.

من هذا المنظور الاستراتيجي، إن دمج أنظمة الذكاء الاصطناعي في برامج تطوير الموظفين الجدد ليس مجرد تحديث تكنولوجي، بل هو إعادة تصور استراتيجي لآلية بناء رأس المال البشري في القطاع الحكومي. إنه التحول من عملية تأهيل عامة وبطيئة إلى نظام تسريع كفاءات ذكي وشخصي وفائق الفعالية. هذا النهج هو ما سيمكن المؤسسات الحكومية الاحترافية من بناء القوى العاملة الرشيقة والمؤهلة والجاهزة للمستقبل، والقادرة على مواجهة التحديات المعقدة وتقديم خدمات استثنائية للمجتمع.

Loading